إسبال الإزار والتكبر

فقد رَغَّبَ إليَّ بعضُ الإخوة أنْ أبيِّن ما ورد عن الرسول ﷺ في مسألة الإزار، وإني أستعين بالله في تبيان ما ثبت من الأحاديث في هذه المسألة، وأرجو منْ كُلِّ من اطلع عليها وله ملاحظة أو نقد أن يذكر ذلك موضحًا ردَّه بالدليل، واللهَ نسأل أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم سبحانه وتعالى.

أحاديث في الإسبال لم يُذكر فيها الخُيَلاء:

١. عن عمرو بن زرارة الأنصاري قال: بينما هو يمشي قد أسبل إزاره، إذ لمحه رسولُ اللهِ ﷺ وقد أخذ بناصية نفسه، وهو يقول: «اللَّهُمَّ عبدك، ابنُ عبدك، ابنُ أمتِكَ». قال عمرو: فقلت: يا رسول الله! إنّي رجلٌ أحمش الساقين، فقال: «يا عمرُو، إن الله -عز وجل- قد أحْسَن كل شيءٍ خلقه، يا عمرُو!»، وضرب رسولُ الله ﷺ بأربع أصابِعَ مِنَ كَفِّه اليُمْنَى تحت ركبة عمرو، فقال: «يا عمرُو هذا موضِعُ الإزار»، ثم رفعها، ثم وضعها تحت الثانية، فقال: «يا عمرُو، هذا موضِعُ الإزار، يا عمرو بن زرارة إن الله لا يحب المُسْبِل» رواه أحمد وغيره بسند صحيح.

٢. عن جابر بن سليم في حديث طويل قال: قال رسول الله ﷺ: «وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك -شاتمك- وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه؛ فإنما وبال ذلك عليه» رواه أبو داود، والحاكم وصححه، والنسائي، وأحمد، وهو صحيح.

٣. عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: كساني رسولُ الله ﷺ حُلَّة مِنْ حُلَلِ السِّيراء، أهداها له فيروزُ، فلبِسْتُ الإزار فأغرقني طولًا وعرْضًا، فسحبته ولبست الرداء فتقنَّعْت به، فأخذ رسول الله ﷺ بعاتقي، فقال: «يا عبد الله! ارفعِ الإزار؛ فإن ما مسَّتِ الأرض مِنَ الإزار إلى ما أسفل من الكعبين في النار». قال عبد الله بن محمد: فلم أرَ إنسانًا قطُّ أشدَّ تشميرًا مِنْ عبد الله بن عمر. صحيح رواه أحمد.

٤. عن المغيرة بن شعبة قال: رأيت النبي ﷺ أخذ بحُجْزَة سفيان بن أبي سهل، وهو يقول: «يا سفيان بن أبي سهل، لا تسبل إزارك؛ فإن الله لا يحب المسبلين»، صحيح، رواه أحمد وابن ماجه.

٥. عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم». قال: قلت: يا رسول الله، من هم خسروا وخابوا؟ قال: فأعاده رسول الله ﷺ ثلاث مرات، قال: «المُسبل، والمنفق سلعته بالحَلِف..» الحديث رواه مسلم.

٦. عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى المُسْبِلِ» صحيح رواه أحمد.

٧. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «إزْرَة المؤمن إلى نصف الساق، فما كان إلى الكعبين فلا بأس به، وما كان تحت الكعبين ففي النار» رواه أحمد.

٨. عن أنس عن النبي ﷺ: «الإزار إلى نصف الساق وإلى الكعبين، لا خير في أسفل من ذلك»، صحيح رواه أحمد وغيره.

٩. عن جابر قال: قال رسول الله: «ما أسفل الكعبين من الإزار في النار»، صحيح رواه الطبراني، وتقدم عند البخاري وغيره.

١٠. عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «ما تحت الكعبين من الإزار في النار» صحيح، رواه الطبراني.

١١. كان عامة إزرة الصحابة إلى الكعبين وأنصاف الساقين. رواه الطبراني.

أحاديث جاء فيها ذكر الخيلاء:

١. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «بينما رجل يتبختر في حُلَّة، معجب بِجُمَّتِه قد أسبل إزاره، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل -أو قال- يهوي فيها إلى يوم القيامة» وكذلك عن أبي سعيد، رواه البخاري.

٢. عن مسلم بن [ينَّاق] قال: كنت جالسًا مع عبد الله بن عمر في مجلس بني عبد الله، فمرَّ فتًى مُسْبِلًا إزاره من قريش، فدعاه عبد الله بن عمر فقال: ممن أنت؟ فقال: من بني بكر، فقال: تحب أن ينظر الله تعالى إليك يوم القيامة؟ قال: نعم. قال: ارفع إزارك؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ -وأومأ بإصبعه إلى أذنيه- يقول: «مَنْ جرَّ إزاره لا يريد إلا الخيلاء؛ لم ينْظُرِ اللهُ إليه يوم القيامة» صحيح، رواه أحمد.

٣. عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: «إزرة المؤمنِ إلى أنصافِ ساقَيْهِ، لا جناح عليه ما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من الكعبين في النار». ويقول ثلاثًا: «لا ينظر الله إلى مَنْ جرَّ إزاره بَطَرًا» صحيح، رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما.

٤. عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى مَنْ جَرَّ إزاره بطرًا» رواه البخاري ومسلم.

٥. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «من جَرَّ ثوبه خُيَلاءَ لم ينظرِ اللهُ إليه يوم القيامة». فقال أبو بكر: إنَّ أحد شقَّي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله ﷺ: «إنك لسْتَ تصنع ذلك خيلاء» رواه البخاري.

٦. عن [هُبَيبِ بن مُغْفِلٍ] الغفاري أنه رأى محمدًا القرشي قام يجُرُّ إزاره، فنظر إليه هُبَيِّب، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من وطئه خيلاء وطئه في النار» صحيح، رواه أحمد والطبراني.

٧. عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر، فقلت: أأدخل؟ فعرف صوتي، فقال: أي بني، إذا أتيت إلى قوم فقل: السلام عليكم، فإن ردوا عليك فقل: أأدخل؟ قال: ثم رأى ابنه يجر إزاره، فقال: ارفع إزارك؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من جرّ ثوبه من الخيلاء؛ لم ينظر الله إليه»، صحيح، رواه أحمد.

ولنأتِ الآن لمناقشة الموضوع:

الأحاديث في الفقرة الأولى ذكرت الإسبال دون ذكر الخيلاء، والفقرة الثانية ذكرت الإسبال وفيه الخيلاء، فهل ذِكْرُ الخيلاء قَيْدٌ تُحْمَلُ عليه الأحاديثُ التي لم يذكر فيها الخيلاء، أم أنها تُعْطي حكمًا آخر، فيكون المسْبِلُ آثمًا لأنه ارتكب محرمًا ويضاف لاسمه السابق وزر الخيلاء، فالمسبل لغير الخيلاء أخفُّ جرمًا من المختال؟

هذا ما قصدت بيانه مستعينًا بالله وحده، فأقول أيضًا: لو تدبرت الأحاديث التي وردت في الفقرة الأولى لوجدتها كلها تمنع على العبد المسلم أن يسبل إزاره، وهذا ظاهر، وكذلك في التدقيق الأولي لها تجد أن الرسول ﷺ وكذلك الصحابة الرواة يغضبون عندما يرون الرجل مسبلًا، وينهونه عن ذلك دون أن يسألوه هل أسبل خيلاء أم عادة.

ومن المقرر في علم الأصول أن النهي يفيد التحريم، ولا يُصْرَف عن هذا الحكم إلا بقرينة، فالأحاديث في الفقرة الأولى كلها تنهى عن الإسبال نهيًا يفيد التحريم، فهل أحاديث الفقرة الثانية تصلح لأن تقيد هذا العموم؟ وهل هي تصلح لأن تكون من باب حمل المطلق على المقيد؟

فالذي يظهر لي استحالة حمل أحاديث النهي المطلق على الأحاديث التي قَيدت الإسبال للخيلاء، وذلك أن حديث جابر يرد هذا الحمل، إذ هو تصريح أن الإسبال هو المخيلة، وهذا نص صريح من الرسول ﷺ. ومعلوم أنه لا اجتهاد في موضع النص، وخاصة أن الصحابي أخبر رسولَ الله ﷺ بسبب وَعِلَّة فعله، ومع هذا لم يرخِّص له ﷺ أن يسبل، فكيف يقال مع هذا: إن مَنْ أسبل دون عذر جائز.

وأسوق لك أقوال الصحابة في هذا:

أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن مسعود أنه رأى أعرابيًّا يصلي وقد أسبل، فقال: «المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام».

وقال الحافظ ابن حجر: «ومثل هذا لا يقال بالرأي».

قلت: وقد رفعه في بعض الطرق.

قال ابن عباس: «لا ينظر الله إلى المسبل».

وعن مجاهد كان يقول: «من مسّ إزاره كعبه؛ لم يقبل الله له صلاة».

قلت: ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه كان يسبل أسفل الكعبين، ولم ينقل مخالف لهذا منهم -رضوان الله عليهم-، ومن ادعى غير ذلك فهذه الكتب فليدلّنا على مسبلٍ منهم أو مجيزٍ. 

وساق البخاري يقول: «باب من جرّ إزاره من غير الخيلاء»، وساق حديث أبي بكر، وساق عنوانًا آخر: «باب ما أسْفَلَ مِنَ الكعبين فهو في النار»، وساق حديث: «ما أسفل الكعبين من الإزار في النار»، تلك -هذه- العناوين يظهر أن البخاري يرى أن الإسبال أنواع في الحرمة:

١- فهو حرام بالجر.

٢- وحرام بالجر للخيلاء. 

وعناوين الأبواب تشهد بذلك.

وقد بسط الحافظ ابن حجر هذه المسألة في «الفتح»، وإليك ما كتبه رحمه الله: «ويُسْتَثْنَى من إسبال الإزار مطلقًا ما أسبله لضرورة، كمن يكون بكعبيه جرح مثلًا يؤذيه الذباب مثلًا إن لم يستره بإزاره حيث لا يجد غيره، نَبَّه على ذلك شيخنا في شرح الترمذي، واستدل على ذلك بإذن منه ﷺ لابن عوف في لبس الحرير من أجل الحكة».

وقال الحافظ: «ويستفاد من هذا الفهم التعقيبُ على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، وقال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء. ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جَرِّ ذيولهن معنى، بل فَهِمَت الزجر عن الإسبال مطلقًا سواء كان عن مخيلة أو لا». وقال الحافظ: «والحاصل أن للرجال فسألت عن حكم النساء» ا. هـ (١٢/ ٣٧١).

وقال الحافظ: «وفي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضًا، لكن استُدِلَّ بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن [الإطلاق] في الزجر الوارد في ذمّ الإسبال محمول على المقيد، فلا يحرم الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد، إلا أن أمر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال» ا. هـ (١٢/ ٣٧٧).

قال ابن العربي: «لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجرُّه خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظًا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكمًا أن يقول: لا أمتثله؛ لأن تلك العلة ليست فيَّ، فإنها دعوى غير مُسَلَّمة، [بل] إطالته ذيله دالَّة على تكبره» ا. هـ.

وعَقَّبَ عليه الحافظ بقوله: «وحاصله أن الإسبال يستلزم جَرَّ الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن [ابن] عمر في أثناء حديث: وإياك وجرَّ الإزار؛ فإن جَرَّ الإزار مِنَ المخيلة».

وقال الحافظ عقبه: «وظاهره أن عَمْرًا المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، منعه من ذلك لكونه مَظِنَّةً» ا. هـ.

قلت: ويشهد لهذا حديث الشَّريد الثقفي وقد تقدم.

وبتتبع أقوال الصحابة وإنكارهم على أن مجرد الإسبال فيه الدليل البيِّن على أن الصحابة كانوا يفهمون أن جر الإسبال حرام، ومن هنا كان إنكارهم، حيث إنهم ينكرون مجرد الإسبال دون السؤال عن نية المسْبِل، فتدبَّرْ هذا ففيه نفع عظيم. وعليه، فهل يمكننا القول بوجود تعارض بين الأحاديث التي نهت عن الإسبال والأخرى التي ذكرت الخيلاء؟ وإن كان وُجِدَ تعارضٌ فهل في الفقه القول بالجواز وإهدار هذه النواهي كلها؟

إن الذي يظهر -وهو الراجح عندي في الجمع- ألّا تعارض بين الأحاديث، وإنما أحاديث الإسبال أفادت حكمًا جديدًا، وهو إثم من قصد الخيلاء أكبر من الذي يجرُّه دون قصد الخيلاء.

وثمة أمر آخر، وهو أن مَنْ جرَّ ثوبه من الخيلاء يكون قد تشبَّهَ بالمختالين، ومَنْ تشبه بقوم فهو منهم، كما جاء في الحديث.

وأما الاحتجاج بحديث أبي بكر فهو بعيد، إذ إن أبا بكر لم يتعمَّدِ الإسبال ولم يسأل عن ذلك، وإنما سأل عن حالة مَنْ أسبل رغمًا عنه دون عِلْمٍ، إذ إن أبا بكر كان رجلًا نحيفًا، وإلا فإن أبا بكر كان غير مسبل، ولم يعمل بالفتوى التي يتهافت عليها المسبلون.

وأرجو في نهاية هذا القول أن يكون قد وضح لك أخي القارئ أمر هذه المسألة، واعلم أن الخير كله في الاتباع، واحذر التشبه بالمختالين الذين يبحثون عن أيِّ فتوى توافق أهواءهم وما يريدون، والله الموفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *