مما شاع وتأثر به العامة بله الخاصة المثقفة هو التأثر بالعدد، والحُكم للكثرة أنها على حق والقلة خاطئة! حتى شاع بين سواد الناس.
وهذه عقيدة روَّج لها الكثير منذ القِدم، ولكنها عقيدةٌ باطلة، بل إن الباطل زرعها حيث جند إبليس، وبهذه المقالة حوربت الرسالات قاطبة، ومن أوضح براهين بطلان هذه المقولة ما نشاهده من حال الجمهور المصفق التابع لكل من يملك البداية مهما كان.
كان الجمهور مع فاروق مصر، وجاء عبد الناصر فإذا القوم من أقطارها له مطبلون وباسمه هاتفون وتوفاه الله، وجاء خليفته ولكن وجد مصفق وهاتف.
ولا يقوم انقلاب في مكان إلا وتجد تأييد الجماهير والأناشيد والمظاهرات، وكأن الأمر في الحبشة، إذ عبد الناس هناك إمبراطورهم ثم سَبّوه ولعنوه، وما حال إمبراطور إيران السابق عنا ببعيد، إذ فرشت له الأرض سجادًا، وأعلن له الولاء، ولا يخلو قطر فيه أتباعه إلا وعَلَتْ صورته، وجاء من بعده من يعارضه، فإذا الجمهور الذي هتف له يهتف للمعارض، ويعلق الصور.
وفي بلدان أخرى كثيرة، إذ هذا مرض عام عالمي، مرض الجمهور يثور ويهتف ويموت، إذ ما حُرك دون علم بالهدف والغاية، وعندما تبرد الأحداث ويعود لرشده يدرك كم هو أحمق.
إذ لو علم الأحباش ما سيحصل لهم بعد خلع صاحبهم أو الأفغان أو الأعاجم؛ لتشبثوا به، ولكنها الشعوب ضاعت فضيعت.
فالجمهور إذًا أو الكثرة لا تعني الحق مطلقًا، بل هي لمن حرك مشاعرها وعرف كيف يستغلها.
ولقد قرر الحق تبارك وتعالى هذه الحقيقة بقوله: ﴿وَمَا أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣].
ويعجبني هذا القول من الشعر:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وديننا
صحيح ودين الأكثرين عليل
فلا تغرك الكثرة، بل انظر إلى الحق تجردًا، ولاحظ القوم تجد كم هو مخدوع هذا الجمهور الذي يموت ويقتل دون أن يستفيد هو! بل هو مُسَيَّر في جميع الأحوال، وكلما قُتِل طاغوت جاءه مَنْ ينقله إلى سيد آخر، وهكذا هو الحال، ولا خلاص إلا أن يكون الجمهور واعيًا مدركًا عالمًا عاقلًا، فهل قومنا مدركون؟!