على هامش أحداث الدمام الأليمة

كنت قد كتبت مجموعة مقالات في مارس عام 1998م ونشرت في وقتها, وقبلها ألقيت محاضرات حول ظاهرة العنف وفكر الخوارج، لكن كما قال الأول:
أمرتهــم أمـــــري بمنعــرج اللــوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحــى الغــد
بل قام ممن يتستر على هذا الفكر الفاسد بالتشويش وبنشر مقالات يزعم أن الخليج وأهله بعيدون عن هذه الأفكار. لكن الأحداث الأخيرة في الكويت والسعودية أثبتت بين الرماد وميض نار، وكان مما قلته في ذلك الوقت هو: «تعصف الفتن في هذه الأمة كما عصفت بها من قبل», وللوقاية ووضع العلاج تدور هذه الحلقات حول «الخوارج»، وهم موجودون في كل عصر وقِطر, والذين يدفعون بهم للثورة من مشايخ الضلال ورواد الفتن هم اليوم كما هم بالأمس, ولعلهم أقل ورعاً من الأولين.
وقد سلط سيف الخوارج على أهل الإسلام فقط, فما عُرف عنهم قتال أو جهاد الكفار, إنما يقاتلون أهل الإسلام ويدعون غيرهم, وهذا وصف النبي ﷺ لهم: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان»( ).
فهؤلاء القوم سبب انحرافهم فكرةٌ ضالة نشرت بينهم، وغذيت بما لبس به الشيطان وزخرف لهم من قول ظنوه دليلا «فهذه الأفكار الضالة انتشرت بين الشباب وشبوا عليها وقدمها لهم مشايخ يسهرون الليل بقراءة القرآن»، ويتظاهرون بالحرص على الشريعة وحماية الدين.
وإن سِحرَ اللسان لا يقل أثراً وفتكاً عن السحر, والمرء يقاد بقلبه فينقاد, وتسمع الجوارح وتطيع حتى لمجهول, وربنا سبحانه ذكر ذلك بقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور} [الحج: 46], وقال: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} [الفرقان: 43].
فهذه العماية والانقياد الأعمى إنما هو ناتج عن تأثر القلب بعقيدة ما وتصديقه لها, فالصراع على الأرض اليوم والأمس ومنذ كانت الدنيا إنما هو صراع فكر وعقائد, وكل الحروب التي نشبت عبر العصور قامت على ذلك, وقد تغلف باقتصاد أو سياسة, ولكن الذي يحرك الناس وتسفك لأجله الدماء إنما هو ما استقر في القلب من عقيدة تجاه الآخر, فعندما يتغير ما استقر في القلب فلا تستبعد أن يقتل الأب ابنه والابن يقتل أباه, وهكذا فسر ما تراه اليوم والأمس من صراع في الدنيا والناس.
وقد أدرك أساتذة الضلال هذه المسألة فسعوا لصياغة العقل كما يريدون, وكل من اطلع على رسائل «إخوان الصفا» في مجلداته الأربعة يدرك هذه المسألة، وكيف تدرج في التأثير العقلي, هذه الرسائل التي كان لها دور في صياغة العقل في تلك الحقبة من التاريخ.
إذاً العقل هو الذي يقود الإنسان والمرء إذا لم يحجر على عقله ويحصنه بالوحي فإنه يكون تبعاً لهواه عابداً لنفسه أو لشيطانه, وسيطرةُ غير الوحي على العقل تجعله يضل، وتنقلب عنده الموازين.
والعقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق أمامه إلا الهوى والشهوة, وكلٌ من الهوى والشهوة يهوي بصاحبه في الدركات, ويعمى ويصم {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50].
وإن الفكر الفاسد لا يهدم إلا بالعلم الصحيح, وإن العقل إذا لم يُغَذَّ بالوحي غُذِّيَ بالهوى, والهوى يهوي ويدمر.
لذا؛ فإن الهدف من تسليط الضوء على المذاهب الفكرية القديمة وإظهارها للأمة يراد به التنبيه إلى أن المرض القديم هو نفسه الجديد!
وهذه النماذج التي تراها من الشباب المستعد للموت يمكن لأي صاحب بيان وحجة ودهاء أن يوجد مثلها ممن لديه الاستعداد للموت والتدمير؛ لأنه أوحي إليه بأن ذلك طريق الخلود في الجنة.
واقرأ ـ إن شئت ـ ما جرى بين علي بن أبي طالب وقاتله الخارجي عبدالرحمن بن ملجم, ونحن مهما علت منزلتنا في الدنيا فلن نبلغ المكانة التي كانت لعثمان بن عفان ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
إن اليد الأثيمة التي لم تتورع عن سفك دم عثمان وعلي بن أبي طالب لا نراها تتورع اليوم عن قتل حاكم أو وزير أو عالم أو طفل, إن تلك الأيدي التي قتلتِ الصحابة الكرام ـ وهم مَنْ هم ـ لا يمكن أن تتورع عن قتل غيرهم, إذ أن المسوغات والمبررات الشرعية التي زُوِّرَتْ لتهيئ أولئك للقيام بسفك دم طاهر لا نظن أن يعجزها إقناع الشاب الفارغ ذهنياً من علم الكتاب والسنة بقتل غيرهم, والحال في زماننا أكثر فساداً عن حال مجتمع الصحابة والتابعين, ولذلك فإننا نرى أن إقدام الشاب على تطليق أمه من أبيه وتزويجها لآخر من جماعته ما هو إلا جرس إنذار لنا اليوم.
فالعاصم من ذلك إذاً هو حماية ذهن الشباب بالعلم النافع، وربطه بالعلماء والأبرار, ولا طريق ينجي من الفتن غير ذلك!
ولعلك تسأل: لماذا كل هذا الحقد على الإسلام من نصارى ويهود ومجوس؟ وما الذي جناه أهل الخير والحق إلا أنهم نشروا دين الله بين الأمم؟! إلا أننا نرى بعضاً منهم يسعون لإيذاء أهل الحق.
إن الفطرة السليمة تقود إلى شكر من أرشد وهدى, ولكن الفطرة التي أفسدها شياطين الإنس جعلت المرء يكفر ولا يشكر, وإن دهاقنة الضلال سعوا جادين لأن يطفئوا نور الله بأفواههم، ولكن الله مظهر دينه وإن رغمت أنوف.
وحتى نزداد بصيرة بهذه الطائفة ـ أي الخوارج ـ والذين حاربهم الصحابة الكرام كتبنا هذه المقالات حتى لا نُخدعـ فندافع عن باطل زُوِّرَ إليك فظننته حقاً.
إن هذه الأمة بالرغم من جراحها إلا أن الخير فيها كثير، والسائرون على درب الهداية كثر والحمد لله, والأمة في هذه المرحلة يحتاج شبابها إلى تبصير وكشف عوار أهل الباطل, وهذا هو دور العلماء.
إن هذه المرحلة بالذات توجب التكاتف بين حملة القلم والسيف لإنقاذ الأمة, وإنا نعتقد أن حامل القلم إن لم يقف مع حامل السيف في هذه المرحلة الحرجة؛ كان ذلك خيانة للأمانة التي حمَّلها الله إياه.
إن التلاحم بين الأمراء والعلماء يجب أن يكون قوياً خاصة في عصرنا هذا, حيث طمع فينا الكل، واستباح حمانا حتى عبَدَة البقر, ولا عز إلا باتفاقهما: علماء وأمراء.
واليوم نقول والله الهادي:
أولاً: المملكة العربية السعودية قامت بكشف شبهات هؤلاء، وسلطت الضوء على فساد هذه العقيدة وحرمة دم العبد المسلم, وكذلك قامت بحرب ليست عادية لهؤلاء لاجتثاث شرهم، وهذا هو ما فعله مع الخوارج الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث أرسل ابن عباس لمناقشتهم ثم حارب من لم يتعظ منهم.
ثانياً: يجب أن نعلم أن هؤلاء لا يزال لهم مِنْ مشايخ الضلال مَنْ بالسر وبالجلسات الخاصة يؤيدهم وينادي بجهاد الكفار كما زعم!! وإن كان في العلن يظهر موالاة الحكام؛ حتى لا يفقدوا المصداقية مع الشباب، أقنعوهم بأن كلامهم العلني لمصلحة الدعوة، فلا يأخذ الشباب به.
ثالثاً: إنّ الكتب والأشرطة المنتشرة وهي تحمل هذه الأفكار الضالة خاصة كتب سيد قطب والمودودي وصلاح الصاوي وآخرين كثيرين.
لذلك فإنا نعتقد أن أهم علاج لذلك مع علاج الحزم والحرب عليهم هو:
1. أن تعطى الفرصة لأهل المذهب الصحيح بكشف شبهات هؤلاء والرد عليها ، وينشر ذلك عبر وسائل الاعلام .
2. أن تمنع وسائل الاعلام من نشر افكارهم .
هذا والله الموفق.
** ** **

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *