أيها الحاج الكريم:
تذكرت يا أخي أنك ذاهب إلى أداء ركن عظيم من أركان الإسلام.
تذكرت وأنت تقول نداء: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة، لك والملك، لا شريك لك.
أجل تذكر وأنت تقول هذا النداء، أنك ترفعت عن المادة واتصلت بالسماء، وبعت نفسك ومالك لله تعالى، وجعلت غایتك رضاءه.
يا أخي، إنك تركت الأهل والولد تلبية لأمر ربك، وشوقًا إلى وطنك الروحي لتؤدي فرضك وتجتمع بإخوان لك جاءوا من أطراف الأرض، فتعيدوا جميعًا إلى ذاكرتكم حين رؤية الشعائر والآثار تاريخكم المجيد، وتستلهموا منه دروس العظمة والتضحية والإقدام.
تذكر يا أخي أنك ذاهب إلى مؤتمر تنعقد جلساته الدورية كل عام.
1- إنه مؤتمر سياسي خطير، يحتّم على المسلمين الآتين من جميع أنحاء العالم دراسة مشكلات البلاد الإسلامية ومعالجتها، وفي مقدمتها البلاد العربية مناط أمل المسلمين، ومدّ يد المعونة للشعوب التي تحت الاستعمار لإنقاذها من خطر الردة والفناء. قال أحد الساسة المسلمين: لقد وقفت أمام الكعبة، فأحسست بخواطري تطوف بكل ناحية من العالم وصل إليها الإسلام، ثم وجدتني أقول في نفسي: يجب أن تتغير نظرتنا إلى الحج، يجب ألا يصبح الذهاب إلى الكعبة تذكرة لدخول الجنة فقط بعد عمر مديد…
يجب أن تكون للحج أیضًا قوة سياسية ضخمة، ويجب أن تهرع صحافة العالم إلى متابعة أنبائه لا بوصفه مراسم عبادة فحسب، وإنما بوصفه مؤتمرًا سياسيًّا دوريًّا يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلامية، ورجال الرأي فيها، وعلماؤها وكتّابها ورجال الصناعة والتجارة فيها وشبابها؛ ليضعوا في هذه الندوة الإسلامية العالمية (برلمان) خطوطًا عريضة لسياسة موحدة، حتى يحين موعد اجتماعهم من جديد بعد عام.
ومما يؤسف له أن صحيفة غربية واحدة لا تكتب سطرًا واحدًا عن الحج في كل عام، على الرغم من اجتماع ما يزيد على مليون من المسلمين الآتين من أنحاء العالم، وذلك لجهل المسلمين بأهم أغراض الحج التي شرعها الله كمؤتمر عالمي دوري يعالج مشكلات العالم الإسلامي والبشرية جمعاء، ويضع الحلول العملية لها.
ولو حقّق المسلمون أهداف الحج كما رسمها الإسلام لذُعر المستعمرون وزلزلوا زلزالًا عظيمًا في كل موسم من مواسمه؛ خشيةً من نتائجه الخطيرة ومغزاه البعيد، وإننا لنسمع الرئيس الإنجليزي «جلادستون» يصرح بهذا القصد في علانية لا ينقصها القِحَة! ففي أواخر القرن الماضي وقف هذا الرجل في مجلس العموم يصيح بين أعضائه: ألا إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد الإسلام شیئان، ولا بد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر؛ أولهما: هذا الكتاب -يعني القرآن العظيم- وسكت قليلًا، ثم اتجه نحو الشرق مشيرًا بيده اليسرى قائلًا: وهذه الكعبة. فهل استطاع الاستعمار تجهيل المسلمين بتدبر کتاب ربهم، وبأهداف حجهم؟ أترك الجواب لك أيها القارئ.
2- الحج مؤتمر اقتصادي يتصل فيه رجال المال والاقتصاد والتجارة والصناعة الآتون إلى الحج من مختلف الأقطار الإسلامية الغنية بمنتوجاتها؛ لعقد اتفاقات اقتصادية، وحماية الإنتاج الإسلامي، وإیجاد سوق إسلامية مشتركة، ومقاطعة بضائع وصادرات الدول الاستعمارية.
3- الحج مؤتمر تاريخي؛ تحيا فيه أعظم الذكريات في مواطنها الأصلية بُغيةَ الإفادة من ماضينا المجيد، ومن الديار التي سطع منها نور الإسلام، ونبع فیها تاريخنا المفعم بالبطولات.
4- الحج مؤتمر خُلُقي وعسكري لتدريب النفوس على الإخاء والمساواة والخشونة والبساطة في المأكل والملبس، كما هو تدريبٌ على الجهاد في حَلّه وتَرْحاله، جاء في الحديث الصحيح: «إیاکم والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين».
هذه بعض مقاصد الحج وهذه بعض فوائده، وقد قدمها الله سبحانه على المناسك فقال عز من قائل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ…} [الحج: 27، 28].
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍۢ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ ۖ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} [البقرة: 198].
قال البخاري وقد أسنده عن ابن عباس قال: كانت عُكَاظ ومَجَنّة وذُو المَجَاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فنزلت الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} في موسم الحج.
وذكر ابن كثير عن مولى عمر قال: قلت: يا أمير المؤمنين: كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معایشهم إلا في الحج؟!