إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
من تطلع إلى أحوال الناس في عصرنا، أو عصور خلت يجد ظاهرة واحدة تتكرر أبدًا ويلحظها كل باحث منقّب عن الحقيقة تناديه؛ أن الناس في شقاء وتعاسة مهما بلغوا من بسطة في الجسم أو قوة في المال، ما لم يكيفوا هذه البسطة أو القوة ويصرفوهما بالوجهة التي أراد الحق سبحانه؛ فإنهم إن فعلوا ذلك فقد حازوا الخير، وإن لم يفعلوا فالشقاء والبؤس لهم قرين وساء قرينًا، وهذه الظاهرة تكاد تصدق في الأمم كلها مهما اختلفت ثقافةً ومَشْرَبًا.
كثيرًا ما نسمع ونردد «لا إلٰه إلا الله، محمد رسول الله»، وإذا أراد المرء أن يحصر قائليها لأعياه ذلك لكثرتهم، أما لو أراد حصر مدركي معناها لهاله الأمر، ولوجد جمهرة كبيرة من قائليها ترددها دونما فهم لمعناها، ومن عجب الأمور أن الغالبية تدرك المعنى العرفي لها، ونقصد بالمعنى العرفي هو ما يفهمه العامة وجمهرة من المثقفين بأن معناها أن لهذا الكون خالقًا ومدبرًا قويًّا قادرًا وهو الله، ويظن هؤلاء أنهم بهذا الفهم قد استقاموا، ولكن هيهات لهم ذلك، فلا بد من أن نفهم كما فهَّمها الرسول ﷺ للصحابة وفهمها من بعدهم.
ولنعرج لبيان معناها فنقول وبالله الاعتصام: شقها الأول: «لا إلٰه» نفي عام يشمل كل آلهة، وذكر الإلٰه هنا ليعم الجميع؛ إذ النكرة في سياق النفي تَعُم، فهي إذًا نفيٌ لجميع الآلهة: حجرها ومدرها وشجرها وطواغيتها.
وشقها الثاني: «إلا الله» استثناء من النفي العام، يثبت أن الألوهية لله -سبحانه وتعالى- دون غيره، فهي نفت جميع الآلهة وأثبتت إلٰهًا واحدًا هو الله سبحانه وتعالى. ويجب التفريق هنا بحرص شديد بين الإله والرب، فالإلٰه هو المعبود، وهي صفة ألصق به، ولا تعني الخالق أو القادر أو المدبر، أما الرب فهي التي تعني الخالق الرزاق المدبر.
وعلى ذلك؛ فالذي يعتقد أن الله قادر وخالق ورزاق وقوي قد عرف الربوبية، وهذا الذي عليه كفار العرب كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٣١].
فإذا ما قُصِدَ هذا القادرُ الخالق بالعبادة -ونقصد بالعبادة المعنى الشامل ويشمل: الصلاة والذبح والتقرب والتوسل والدعاء والنذر والطاعة- فإذا فعل ذلك يكون قد حقق توحيد الألوهية لله سبحانه، ويكون ذلك بنفي أي عبادة لغير الله سبحانه، وهذا هو المقصود من «لا إلٰه إلا الله»؛ أي: لا معبود بحق إلا الله، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا ٱلصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥].
فإذا ما تبلور لدينا هذان الأمران، وهما:
١. توحيد الربوبية: وهو الاعتقاد أن لهذا الكون خالقًا حيًّا دائمًا إلى آخر صفات الحق سبحانه وتعالى، ولكن هذا الاعتقاد إذا لم يضم له الشق الثاني، وهو قصد الإلٰه بالعبادة كما يريد المولى سبحانه وتعالى، فإن معرفة الرب وحدها لا تنجي من النار كما لا تدخل الجنة؛ إذ إن كفار قريش كانوا يُقِرُّون بهذا النوع من التوحيد في الربوبية كما بيَّنا في الآية السابقة، وكما توضحه هذه الآية: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٨].
٢. توحيد الألوهية: وهو كما بيَّنا سابقًا الاتجاه لهذا الخالق، وقصده بالعبادة، وبغير هذا فلا إيمان.
وعلى ذلك، فكثير من علماء الطبيعيات وغيرهم من النصارى واليهود يعترفون بتوحيد الربوبية، ولكنهم جميعًا يُشركون في توحيد الألوهية، وهذا التوحيد لا يغنيهم من الله شيئًا.
وكثير من المسلمين الذين ينطقون بالشهادتين يشركون في الألوهية؛ إذ إن بعضهم ينذر لغير الله، ويذبح لغير الله، ويتوسل بغير الله، وهذا كله شرك كما نصت عليه أحاديث كثيرة، منها: «من ذبح لغير الله فقد أشرك»، «ومن نذر لغير الله فقد أشرك»، «ومن حلف بغير الله فقد أشرك»، وهي أحاديث صحيحة.
والآيات الآمرة بعبادة الله كثيرة، منها قوله جلَّ وعلا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وقوله: ﴿فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ﴾، [الحجر: ٩٩] وقوله تعالى: ﴿ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: ٢٣]، هذا هو الأصل الذي يجب أن يفهمه كل مسلم ويعمل به.
ونستطيع القول بعد الذي سبق أن معنى «لا إلٰه إلا الله»؛ أي: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، ونود أن نبين خطأ يقع كثيرًا ممن لا يعرف هذا المعنى، فهم يقولون: معناها «لا معبود إلا الله»، وهذا التفريق ناقص إذ يجب تقيده، وذلك أن هناك معبودات كثيرة غير الله سبحانه، فهذا التعريف لم يفرد الرب سبحانه بالعبادة، بل لم يمنع تعدد ذلك. أما عند إضافة «بحق» إلى التعريف ليصبح «لا معبود بحق إلا الله»؛ فإنها تخرج المعبودات التي عُبِدت من دون الله سبحانه؛ لأنها لم تكن بحق.
لقد ذكرنا آنفًا معنى «لا إلٰه إلا الله»، ونعود لذكر معنى «محمد رسول الله»، وفيما قلناه: إن معناها: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، ويجب أن نعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يعبد الله -جلَّ وعلا- بحق إلا بوساطة رسول يبلّغه ما يريد ليبلغ للناس دين الله، فمحمد ﷺ أرسله الله رسولًا للناس كافة ليبلغ الدين للخلق، وعلى ذلك فالإيمان بأن محمدًا رسول الله أمر لازم لا يتم الإسلام إلا به؛ إذ إنه يستحيل عبادة الحق سبحانه كما يريد هو -جلَّ وعلا- من غير اتباع الرسول ﷺ، وعلى ذلك فمن اكتفى بمفهوم اللفظ الأول كان لازمًا له أن يعتقد برسالة محمد ﷺ، ومن هنا ندرك أن تقيدنا بالمعبود الحق يدخل فيه اتباع المصطفى ﷺ، وأخبر الحق -جلَّ شأنه- بأن الإيمان لا يتم إلا بالرضوخ لحكم الرسول ﷺ؛ قال سبحانه: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ومما يدل على عظم جُرْم من عصاه ﷺ أن أقسم الحق بنفسه ﴿فَلَا وَرَبِّكَ﴾.
والآيات في هذا كثيرة جدًّا، وليس هذا موضعها، وإنما نود أن يتبلور أن محمدًا رسول الله يجب الاعتقاد بها، وإيمان المرء بها لازم حتى يتم له الإسلام، ومن لوازمها طاعته في كل شيء صلوات الله وسلامه عليه.
فهذه لمحات حول العقيدة، وإني أقر بأني لم أوفِّ المسألة حقها، ولكن عجالة رأيت نفسي ملزمًا بتدوينها حول هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، بل هو أعظمه؛ إذ به تحل أو تحرم الدماء.
وأرجو من الإخوة الذين درسوا التوحيد على طريقة أصحاب الكلام أن يرجعوا لدراسته من الكتاب والسُّنَّة، فهما -والله- أصح مصدر لدراسة هذا العلم، بل هي وظيفتهما الأولى.
والحق سبحانه أسأل التوفيق والسداد، وأن يحيينا ويميتنا على معتقد الصحابة رضي الله عنهم، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.