لا يزال المرء -مهما كان نوعه أو دينه- يصارع الحياة للحصول على ما ينفعه منذ الصرخة الأولى حين الولادة إلى الصرخة الأخيرة حين يموت عليه، فهو مستمر في الصراع والسعي نحو الأفضل والأحسن لما يظن أنه ينفعه، ومذاهب بني الإنسان في تحديد ما ينفعهم وما يضرهم متفاوتة ومختلفة، ولكن يقسمهم الواقع إلى:
أ. فريق يقر بالصانع المدبر للخلق والرسل وما جاءوا به، والبعث بعد الموت، والحياة الآخرة، وهؤلاء هم المسلمون.
ب. وآخرون من غيرهم لا يرون بعثًا ولا نشورًا، وإنما يرون أن الدهر هو مهلكهم، فهؤلاء الكافرون بالآخرة مهما تعددت مذاهبهم وتنوعت نِحَلُهم، فالكفر ملة واحدة، وهذا الفريق من الناس لا شأن لنا به الآن؛ لأنه يحتاج إلى بسط القول لإقناعه بالحق الذي كفر به.
وإنما نخاطب نحن من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ نبيًّا ورسولًا، فهؤلاء الذين آمنوا بجنة عرضها السموات والأرض. نذكر منهم من أنساه الشيطان ذكر ربه، وشغله عن الآخرة ونعيمها، فجرفه الهوى وغرته الدنيا بزخرفها، ولا يزال يركض ويسعى جاهدًا باحثًا فيما يظنه خيره وسعادته، وظن بعض من لم يذق الطاعة ولذتها أن الإسلام والالتزام به يحرمه لذة العيش ومتعة الحياة، وما يدري أن المتعة واللذة الحقة فيه، ومن جهل شيئًا تركه وعاداه.
وقد يكون عذر هؤلاء أن الإسلام النقي الطيب لم يقدم لهم، ولم تُتَحْ لهم فرصة تذوق القرآن والركوع والسجود، فنقول: إن باب الرجوع مفتوح، وأقدّم لهم بشرى لعلها تصادف قلبًا راغبًا في تطهير نفسه من دَرَن المعصية وفسادها.
فانظر -رحمك الله- إلى قول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٥، ١٣٦]، فهذا ربك -سبحانه وتعالى- وعدك بمغفرة وجنات.
ولكن هل أدلك على خير أكثر، انظر إلى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠]، فماذا تنتظر -رحمك الله- بعد هذا العرض العظيم؟، مغفرة وحسنات بدلًا من السيئات.
ولا تظن أن التوبة تغفر بعض الذنوب، بل إنها -إن صدق صاحبها- تغفر الذنوب جميعًا، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣].
ثم اعلم أنْ ليس للتوبة حد ولا وقت، بل صحّ عن رسولنا ﷺ أنه قال: «إن الله -عز وجل- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها» رواه مسلم.
واطمئن بأن الله حليم ورحيم، ومن حلمه وفضله -وهو الذي يعلم ضعف العبد- أن جعل التوبة تتجدد مع الذنب، فقال ﷺ: «إن عبدًا أصاب ذنبًا، فقال: يا رب إني أذنبت ذنبًا فاغفره، فقال له ربه: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبًا آخر، فقال: يا رب، إني أذنبت ذنبًا آخر فاغفره لي. قال ربه: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبًا آخر، فقال: يا رب، إني أذنبت ذنبًا فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أنه له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، فقال ربه: غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء»، رواه البخاري ومسلم. ومعنى «ما شاء» أنه إن استمر على الاستغفار والتوبة بعد الذنب فمغفور له.
فهل هناك سعة ويسر أكبر من هذا؟ والشيطان يأتي العبد من ناحية الذنب، فإذا علم العبد أنه بفطرته لا بد وأن يقع، وإنما الذي عليه التوبة والرجوع؛ أغلق أمام إبليس باب الفتن، وهذه القضية يخبر عنها الرسول ﷺ: «والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم» رواه مسلم.
هذا يا أخي دينك، وهذا يسره، فاقلع رداء المعصية وشمر، واعلم أن الله سبحانه يحب العبد التائب، وهذه هي أبواب الخير والرحمة فيه، فتح لك أبواب السعادة الأبدية والاستقرار والأمن، كل ذلك مقابل الشكر له سبحانه الذي خلق ورزق وأعطى، ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: ٣٤].
وليس عليك فيما فرّطت من شيء إن أحسنت التوبة، فكل الصلوات التي تركتها تمحيها التوبة، ولا تلتفت إلى من يقول: عليك قضاء ما فات؛ فإنهم متنطعون، وديننا يسر لا عسر فيه.
فاتق الله يا عبد الله، ودع عنك التراخي وطول الأمل، وتدبر قول رسولك ﷺ: «ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، ولا مثل النار نام هاربها»، ولا تغترّ بكثرة من ترى في الهالكين، واعلم أنك لن تترك لله شيئًا إلا عوضك خيرًا منه، وفي هذا بيان.