إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد:
لقد نُشر في «البلاغ» الغراء عدد (١٤٣)، بتاريخ ١٢ محرم ٩٢ مقالٌ للأستاذ/ رمضان لاوند، تحت عنوان: «الفكر القرآني بين الواقع والمصير»، والذي أثارني في هذا هو العنوان وخاصة لفظة «الفكر»، وكان ذلك ظنًّا مني بأن الأستاذ لا يقصد المعنى المعروف للفظة «الفكر»، إلا أني فهمتُ في أثناء المقال أنه يقررها، وهذه بعض العبارات التي وردت في المقال توضح ما نقصد:
قال: «لماذا الفكر الإسلامي دون سواه.. لما كان الفكر الإسلامي هو حصيلة تراث صنعته رسالات نبوية.. فقد وجب أن يكون هذا الفكر بعطائه السماوي.. اعترف بأن الفكر القرآني».
ويجدر بنا قبل مناقشة المقال أن نحدد معنى الفكر لغةً، فالفكر كما هو في «لسان العرب»: «إعمال الخاطر في شيء»، وعادةً يلجأ لعملية التفكير حين يصعب أمر من الأمور، وبالطبع يتفاوت الناس في هذا حسب مستوياتهم.
والمفكر هو الذي يحاول أن يُعمل خاطره بغيةَ الوصول لمعرفة حقيقة أمر ما، ولذا يلجأ لتطبيق قوانين الفكر عليها علَّهُ يصل إلى نتيجة، وحتى إنْ توصل إلى نتيجة ما فإنها تكون قابلة للنقض من المفكر نفسه إذا بدا له رأي آخر أو من غيره.
ولذلك لا يُطلق على حقائق العلم بأنها أفكار؛ لأنها من الأمور التي أقامت التجاربُ الدليلَ على صحتها.
وبعد هذه المقدمة نطرح هذا السؤال: هل في القرآن فكر؟ أو فيه أفكار؟
فإن كان الجواب بالنفي؛ فيكون عنوان المقال والعبارات خاطئة، وهو خطأ في استعمال العبارات، أما إذا كان الجواب بالإثبات، فنقول:
عندما نقول: إن القرآن «فكر» أو «الفكر القرآني» أو «الفكر الإسلامي»؛ فتدلنا هذه العبارات على الآتي:
١. بما أنها أفكار؛ إذًا يحقُّ لنا تطبيق قوانين الفكر عليها ومن ثَمَّ ردها أو قبولها، ولا أعتقد أن أحدًا من المسلمين يجيز لنفسه مثل هذا القول وهو قبول أو ردّ ما شاء من القرآن.
إننا عندما نقول: إن في القرآن أفكارًا يجرّنا هذا القول إلى قول آخر رهيب من حيث معناه وله أبعاد عميقة في العقيدة، وهو أنه بما أن القرآن فيه أفكار؛ فلا بد لهذه الأفكار من فكر، وبما أن القرآن من عند الله سبحانه؛ فإذًا يوصف الله سبحانه هنا بالتفكير!! وهذه صفة نقص بالنسبة لعَلّام الغيوب، لا يحق لمسلم أن يصف بها الحقَّ سبحانه، ولأن الصفات توقيفية فلا يجوز لنا أن نصف الحق سبحانه بصفة لم يَصِفْ نفسه بها، كما لا يجوز نفي صفة عنه.
ثم إن هذه الصفة إذا أُطلقتْ على الحق -سبحانه وتعالى- دلَّت على أنه لا يعلم حقائق الأمور؛ لذا فهو يحتاج إلى التفكير فيها ثم يتوصل إلى نتائج قد تُصيب وتُخطئ، وهذا -لا شك- ضلالٌ بعيد ويُنزه الحقُّ سبحانه عن ذلك.
وإني مع اعتقادي بأن الأستاذ/ رمضان لا يقصد ذلك؛ إلا أن مدلول المسألة يجرنا لذلك.
ولم يصف الحق سبحانه نفسه بهذه الصفة؛ فقد جاء ذكر «فكر» ومشتقاتها في القرآن الكريم (١٨) مرة، كلها تحثّ البشر.
وثمة أمر آخر له صلة بالموضوع، وهو أن هذه العبارة «الفكر الإسلامي» التي أصبحت -للأسف الشديد- كثيرة التداول بين الكُتّاب الإسلاميين المعاصرين، وفي اعتقادي أن هذا القول دخل عليهم من غير المسلمين، فاستخدموه بحسن نية واستبدلوه بكلمة «العقيدة»، فأصبحنا نسمع كثيرًا «الفكرة الإسلامية» بدلًا من «العقيدة الإسلامية»، و«الفكر الإسلامي» بدلًا من «الدين الإسلامي».
وكثيرًا ما تستعمل هذه العبارات وتطلق مرادفة للفكر غير الإسلامي، فيقال مثلًا: الفكر الماركسي.. الفكر الصهيوني.. الفكر.. ثم يقال في المواجهة: «الفكر الإسلامي»! وشتان بين مصدر الدين الإسلامي والأفكار الأخرى، وهذا من مصائب عدم تحديد الألفاظ التي شاع أمرها في أوساطنا الإسلامية.
والذي حملني على القول بأن هذه العبارة من نِتاج غير المسلمين: هو أنّ -كما لا يخفى على أحد- هدفهم الأول هو التشكيك في رسالة محمد ﷺ، ولذا أطلقوا القول بأن هذا الشخص -أي: محمدًا ﷺ- إنما هو عبقري ومفكر فذّ!!
والعجب أن كثيرًا من المسلمين السُّذَّج ظنوا أن هذا مدحٌ للرسول ﷺ، ولذا صفّقوا له كثيرًا ونشروه على أنه اعتراف من أعداء الحق، ولَيْتَهُمْ فكّروا حتى يجدوا أن الأمر أكبر من عقولهم.
ثم بعد فترة ظهر قول آخر هو أن هذا الرجل بما أنه عبقري وفذ؛ فلا يبعد عنه أن يأتي بمثل هذا الدين! وهنا الطامة، وقولهم هذا لشهرة يعرفه الجميع.
وخطورة إشاعة «الفكرة الإسلامية» تكمن في أنه إذا شاع هذا ودُوِّن في الكتب ومضى عليه الزمن؛ فإنه يعني اعترافًا منا بأن الإسلام فكر! وسيصبح بعد فترة من الزمن حجة علينا، وذلك أننا اعترفنا بأن محمد مفكر وهذا الدين فكر، وبعد أن يمضي وقت طويل ستكون هذه من الحقائق، فلا يمكن لنا إلا التسليم بأن الدين من نتاج الفكر!
وهذه النتيجة هي التي يريدها لنا أعداء الحق سبحانه، ولكن حجتهم داحضة، وعلى ذلك يتضح لنا أن تسمية العقاد كتابه «عبقرية محمد» إنما هو خطأ لا يجوز؛ فمحمد ﷺ ليس عبقريًّا ولا مفكرًا كما هو معروف، وإننا لا ننفي عنه التفكير والتدبر، بل ننفي عنه إطلاق اسم المفكر عليه؛ لأن الدين ليس من تفكيره، بل من عند الحق سبحانه.
ولذلك إياك من قول: «الفكر الإسلامي»، أو «الفكرة الإسلامية»، وإنما قل دائمًا: «الدين الإسلامي» و«العقيدة الإسلامية»، وأرجو ألّا يُفهم من كلامي أني أحظر التفكير أو أنه ليس هناك مفكرون إسلاميون، وإنما أقصد إطلاق اسم «الفكر» على الدين، أما المسلمون فهم مطالبون بالتفكير كما في صريح القرآن.
ووجه التحذير أن غير المسلمين يخططون لمئات السنين، وعندهم صبر عميق؛ لذا يجب التخطيط والتنبه لمدلول الألفاظ حتى لا نقع.
وبعد.. فإني أرجو أن تُدْرَس هذه القضية، وأرحّب بأي نقد حول قولي، وذلك أن النصح واجب والنقد مطلوب.
وأخيرًا أرجو من الأستاذ/ رمضان أن يفتح صدره لهذا، والنصحَ أردتُ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.