﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: ١٣، ١٤]، وقال لرسوله ﷺ: ﴿فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: ١١٢].
فبين أن الاستقامة ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلـٰهُكُمْ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَٱسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [فصلت: 6]، وقال الله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُوا عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأََسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجنّ: ١٦].
سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عن الاستقامة، فقال: «ألَّا تشرك بالله شيئًا»، يريد الاستقامة على محض التوحيد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب».
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «استقاموا: أخلصوا العمل لله».
وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما: «استقاموا: أدوا الفرائض».
وقال الحسن: «استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته».
وقال مجاهد: «استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله».
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: «استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يَمْنة ولا يَسْرة».
وفي «صحيح مسلم» عن سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: «قل: آمنت بالله، ثم استقم».
وفيه عن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «استقيموا ولن تُحصُوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن».
والمطلوب من العبد الاستقامة، وهي السداد، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة، كما في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «سَدِّدوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال.
وأخبر في حديث ثوبان أنهم لا يطيقونها، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجيان يوم القيامة، فلا يركن أحد إلى عمله، ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به؛ بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله.
فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات.
والاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله تعالى روحه- يقول: «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة».
قال الهروي: «وهي -أي الاستقامة- على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، لا عادِيًا رسم العلم، ولا متجاوزًا حد الإخلاص، ولا مخالفًا نهج السنة، هذه درجة تتضمن ستة أمور: عملًا واجتهادًا فيه، وهو بذل المجهود، واقتصادًا وهو السلوك بين طرفي الإفراط وهو الجَوْر على النفوس، والتفريط بالإضاعة، ووقوفًا مع ما يرسمه العلم، لا وقوفًا مع داعي الحال، وإفراد المعبود بالإرادة وهو الإخلاص، ووقوع الأعمال على الأمر وهو متابعة السنة.
فبهذه الأمور الستة تتم لأهل هذه الدرجة استقامتها، وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة، إما خروجًا كليًّا، وإما خروجًا جزئيًّا.
والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا -وهما الاقتصاد في الأعمال، والاعتصام بالسنة- فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضًا عن كمال الانقياد للسنة؛ أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصًا على السنة وشدة طلب لها؛ لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلًا له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتُر مع أهل الفُتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرّضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.
وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، ولكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا والشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان.
وقال النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «يا عبد الله بن عمرو، إن لكل عامل شِرّة، ولكل شرة فَتْرة، فمن كانت فترته إلى سُنّة أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر»، قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل.
فكل الخير في اجتهاد باقتصاد وإخلاص مقرون بالاتباع، كما قال بعض الصحابة: اقتصاد في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم.
وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة، والفتور والتواني يخرجه عنها أيضًا».