الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، أما بعد:
وقفنا معًا في الأسبوع السابق على أن الإسلام المطروح اليوم فيه من الشوائب ما توجب أخذ الحيطة والحذر؛ حتى لا تزل بنا القدم فتردينا إلى الهاوية، ولا أخالني مبالغًا إذا قلت: إن الكثير من الذي يُطرَح تفوح منه راوئح ترجع لليهودية أو النصرانية.
وتعالَ معي لنناقش قضية هي مطلب الراحلين ولها شمّر العاملون؛ إنها الهداية، وأقصد هي ذلك النور الذي يُقذَف في قلب العبد فيجعله يحب الطاعة ويتذوق الجمال في الأخلاق والقيم، وهي ذلك الإحساس الذي يشعر به العبد كلما ركع لله وسجد.
وليس من سالكٍ إلى الله إلا ويقصد الهداية، أي: أن يوفق لأن يكون مهديًّا، فالهداية واحدة قصدها الخلق وهاموا في البحث عنها، فهل وُفِّقوا؟
حقيقة الهداية:
وقبل أن نجيب على السؤال لا بد من العلم بأن الهداية نور يقذف في قلب العبد، وتحول يتحول فيه سلوك الإنسان وشعور يعیشه العبد، أي: إنه تحول في وجدان الشخص ونفسه، فإن كان أمرها كذلك بان لك أن الإنسان لا يستطيع صنع هذا الفعل في النفس البشرية.
فالهداية إذًا أمر يتعلق بالروح والنفس، وهذا لا طاقة للإنسان به.
مصدر الهداية:
ذلكم الذي قلنا هو الأساس، فإنك إما أن تعتقد بأن الهداية مصدرها الله وحده أو أن الإنسان يملك شيئًا منها.
وقلت سابقًا: إني أكتب للمسلمين الذين يعتقدون أن الله خالقهم وآمنوا به وبرسوله، فالمسلمون قاطبة يعتقدون أن الله هو المتصرف في تحويل القلوب، ولذلك كان دعاؤهم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
ومن هنا كان سؤال المصلين لربهم الهداية في كل ركعة من الصلاة، أنهم يقولون: {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فالذي يهدي هو الله.
طريق الهداية:
ولكن قد نتساءل: كيف تُستمَد الهداية من الله؟
هل يكون ذلك بالجلوس في الحُجَر المظلمة والخَلْوة والعزلة والجوع والعطش وهجر الزواج وترك الأكل، إلى غير ذلك مما يفعله المتصوفة؟!
أو هل تأتي لك الهداية وأنت قابع في غار في أحد الكهوف، أو جالس في منارة مسجد قد ربطت عينيك كما وصف ذلك من سموه حجة الإسلام الغزالي؟!
وتقول: رفقًا رفقًا أخا الإسلام، فالذي خلق لا يضيّع من خلق، إن الذي جعل الهداية حصرًا علیه هو نفسه الذي خلق وهو الرحيم، وهو الذي يحب العبد الطائع ويكره الكفر والفجور.
ومن صفات ربنا -تبارك وتعالى- أنه برّ رحیم، فهل يكون رحيمًا من يختص بشيء ثم يحتكره ويمنعه من طالبيه؟! حاشا وتقدس ربنا عن ذلك، بل هو سبحانه يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسطها بالليل ليتوب مسيء النهار، إنه سبحانه يحب العبد التائب.
الهداية سهلة ميسرة:
وأمر الهداية بغاية اليسر والسهولة لمن أراد وشمر، إنه ليس عليه إلا أن يطرق باب الله، والله لا يخيّب رجاء من قصده فهو الصمد سبحانه، وهو القائل سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
وقد تعهد الله سبحانه بإعطاء الهداية لمن يقصدها، ولكن بشرط صدق النية والعزيمة بالقلب {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
الرسل دعاة للهداية:
ولم يتركنا الله هَمَلًا، بل أرسل رسلًا يدلون الناس على الله.
فالرسل إذًا هم الدالون على الله، وكل من سلك غير سبيل الرسل فلن يصل الهداية ولن يعرفها {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
فهل قام الرسل بما كُلِّفوا به؟ وما هو طريقهم؟
هذا ما سنحدثك عنه في الأسبوع القادم إن شاء الله.
والله المستعان.