يظن كثير من الناس أن من قال كلمة التوحيد وصلى فهو مسلم مهما بدر منه من أقوال أو أفعال مما ينافي التوحيد، ولذلك أصبحت ترى أن البعض يحكم على أصحاب الأهواء والضلال بالإسلام -بل بالإيمان- وإن ظهر منهم الكفر البَوَاح، كسبِّ الصحابة والطعن فيهم واستغاثتهم بغير الله والذبح للقبور.
وقد بيّن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حكم هؤلاء، فقال رحمه الله: «[فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي ﷺ، وهو]() أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحان الله ما أعجب هذا الجهل!!
ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي ﷺ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلون ويؤذّنون. فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلًا إلى رتبة النبي ﷺ كفر، وحلّ ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان، ويوسف، أو صحابيًّا، أو نبيًّا في مرتبة جبار السموات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الرُّوم: ٥٩].
ويقال أيضًا: الذين حرقهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنار كلهم يدّعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أم تظنون الاعتقاد في «تاج» وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟
ويقال أيضًا: بنو عبيد القَدّاح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه؛ أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن، وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب «باب حكم المرتد»، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه؟ ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم: ﴿يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾ [التوبة: ٧٤]، أما سمعت الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله ﷺ يجاهدون معه ويصلون معه، ويزكون ويحجون ويوحدون؟!
وكذلك الذين قال الله فيهم: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: ٦٦]، فهؤلاء الذين صرّح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح، فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون؟ ثم تأمل جوابها، فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
ومن الدليل على ذلك أيضًا ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم، أنهم قالوا لموسى: ﴿ٱجْعَلْ لَنَا إِلـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨]، وقول أناس من الصحابة: اجعل لنا ذات أنواط، فحلف النبي ﷺ أن هذا نظير قول بني إسرائيل: ﴿ٱجْعَلْ لَنَا إِلـٰهًا﴾.
ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا، وكذلك [الذين] قالوا اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا.
فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النبي ﷺ لم يفعلوا ذلك، ولا خلاف في أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك ولو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي ﷺ لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب، ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم -بل العالم- قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل: «التوحيد فهمناه» أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان. وتفيد أيضًا أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنُبِّه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي ﷺ. وتفيد أنه لو لم يكفر، فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله ﷺ».