إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن مما شاع وعلم أن التقديس منشؤه الحب، فكل محبوب مُقَدَّس، وتقرير هذا لا يحتاج منا إلى كثرة شواهد؛ إذ شهرتُه تُغْني، وسبب الحب أو التقديس غالبًا ما يكون لجلب منفعة ودفع مضرة، وهذا هو أصل الخضوع لله سبحانه وتعالى.
فالمسلم يعبد الله -جل وعلا- لجلب منفعة وهي الجنة، ودفع مضرة وهي النار، كما أخبر الحق سبحانه من يدعونه خوفًا وطمعًا، وكلما كان الحب متملكًا من المرء كان ذكر المحبوب دائرًا على اللسان أكثر.
فالمسلم يشترط فيه حب الله جل وعلا، وأن يكون دائم الذكر له سبحانه، وبالتالي تقديسه والحلف به، ولكن المراقب للمسلمين عامَّةً يجد عجبًا، فالبعض يُقْسم بالأولاد، وآخر بالشرف، وثالث بالحياة، ورابع بالنبي، وخامس بالكعبة، وسادس بسيدي جابر وسيدي خليل، والبعض بالعباس والحسين وعلي، وهكذا تتعدد الأقسام الصادرة من الناس.
والحقيقة أنه لا تعدد للأقسام، بل التعدد يكون للمحبوبات، فالذي يتبادر على اللسان أولًا إنما هو يعني أنه أقرب للنفس من الآخر، ولذا يستطيع المرء معرفة ميول الشخص نحو أمر ما بمراقبة كثرة ترديده له.
والحلف أقوى برهان، ومن عجب ما سمعت أن في بلد عربي إذا أردتَّ أن يصدقك الرجل فاطلب منه الحلف بسيدي خليل! وقال لي ثقةٌ عاشَرَهم: إنه قد يضطر لاستخدامه في المحكمة أحيانًا! فنستغفر الله من مسلمين كهؤلاء.
الحلف بالنبي:
أما الحلف بالنبي فهذا حدث عن عجائبه، وقد التقيت بشيخ يُشارُ له بالبنان، وقيل لي: إن علمه كالبحر، وعجبت إذ إنه في ثنايا قوله ردد فضيلته مرارًا قوله: «والنبي»!! فعجبت وقلت لنفسي: سبحان الله! هذا الرجل يَعِظُ الناس ويدرسهم التوحيد، وهو يشرك! إن هذا لشيء عجاب.
هذا أخي حال جمهرة المسلمين، ولقد قلت في مقال سابق: إن الكثير يقول: «لا إله إلا الله»، ولكن المطلوب إدراك معناها.
وبعد أن سُقْتُ لك حال القوم ولا أظن أن أحدًا لم يسمع رجلًا يحلف بغير الله، فهل سألت نفسك عن حكم هذا الحلف؟
سبب الحلف بغير الله:
لقد قلت آنفًا -في أول قولي-: إننا قبل أن نناقش حكم هذا العمل يجدر بنا أن نناقش سببه، ولقد قلت -وأكرر ليرسخ-: إن السبب في اعتقادي هو الحب، وهذا الحب لهذه الأشياء جعلها مقدسة، سواء كانت أمورًا معنوية كالشرف والحياة، أو مادية كالنبي والكعبة والحسين والبخاري.. إلى أنواع تختلف باختلاف الشعوب وتتنوع بتنوع البيئات الإسلامية.
وإنني أجزم أن الناس ما حلفوا بهذه المخلوقات الضعيفة إلا أنهم يقدسونها، أي: إنهم يحبونها حبًّا جمًّا، وهذا الحب جعلهم يرفعونها لمرتبة الحلف بها، وهذا يعني عبادتها!
إن الذي يذهب ليطلب من صاحب القبر أن يشفيه من مرض ألَمَّ به، ويذبح له ويتضرع له، ويتوسل به، وإذا حلف حلف به، إن هذا الرجل لا يمكن أن يكون عابدًا لله وحده وإن صلى وصام وظن أنه مسلم، ويصدق فيه قول الله جل وعلا:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِٱلْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 103، 104].
غُلُوّ الناس في الصالحين أوقعهم في الشرك:
إني من قبل أن أقرر الحكم أسوق هذه القصة، ففيها بيان وأي بيان! منذ فترة -وأظنها بعيدة- تطلَّب مني موقف أن أطلب من رجل أن يحلف بالله مع علمي القاطع بأنه لا يمكن له أن يحلف ليقيني بكذبه، ولكن الرجل حلف بالله، وردد أغلظ الأيمان، وكاد حقي أن يضيع! فقال له صاحبي: إذا كنت صادقًا في دعواك، فاحلف بالعباس! أدهشني طلب صاحبي، كيف يطلب من الرجل أن يشرك؟! ولم تَنْتَهِ مفاجأة صاحبي حتى تَلَتْها أخرى، إذ إن الرجل ارتَعَدَتْ فرائصُه، وما استطاع الحلف بالعباس خوفًا منه بزعمه!
هذه الحادثة قد تكون أهون من غيرها كثيرًا، وكثير يعرفها من عاشر هؤلاء القوم، وبئس العشير هم.
وأود أن أقرر ما يلي قبل الحكم:
١. أن الحلف لا يكون إلا مع حُبٍّ يَجُر لتقديس المحلوف به.
٢. أن هذا الحب يطغى على حب الله سبحانه، فتكون مرتبة حب الولي أكبر من حب الله، وإن ادعى الحالف بغير الله خلافه فالواقع يكذبه.
مما سبق يتضح لنا أن المرء لا يحلف إلا بما يحب ويكون الحلف بأعلى المحبوبات عنده، فإذا حلف بغير الله دلَّ ذلك على أن هذا المحلوف به محبوب أكثر من الله سبحانه وتعالى، إذ الحب أعلى أنواع العبادة والباعث عليها، فإذا تقرر هذا بالعقل وحرصت على أن أبين أن الحلف بغير الله ينافي الإسلام ويخلّ بعقيدة التوحيد بالأدلة العقلية لا يعني ذلك عدم وجود أدلة نقلية من الشرع، بل الأدلة في ذلك متضافرة.
فاعلم أخي -لا حُرِمْت بصيرة العلم- أن الحلف بغير الله محبط للعمل، ولا ينفع معه صيام ولا صلاة، فبادر إلى تطهير لسانك من ذلك، ودقق القول، وطهر قلبك من الشرك، واعلم أني ما حكمتُ على أنه مشرك بهواي ورأيي، حاشَ لله ذلك! ومن أنا حتى أتجرَّأ على القول في دين الله من غير بيِّنة ولا دليل! وهذه النصوص إليكها تدبرها، وجنّب نفسك الشرك، وادعُ الله سبحانه أن يحشرك وإيانا في زُمرة الصالحين الموحدين، فنِعْمَ المولى ربنا ونعم النصير.
نصوص في تحريم الحلف بغير الله:
١. عن ابن عمر أن النبي ﷺ سمع عمر وهو يحلف بأبيه، فقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» رواه البخاري ومسلم.
٢. عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «من حلف بغير الله فقد كفر». وفي رواية: «فقد أشرك»، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وهو صحيح.
٣. «من حلف بالأمانة فليس منا»، حديث صحيح رواه أبو داود، وانظر: «الأحاديث الصحيحة» للألباني.
مما سبق من الأحاديث يظهر الآتي:
١. أن الحلف بغير الله غير جائز؛ لقوله ﷺ: «فلا يحلف إلا بالله».
٢. أن الحلف بالأمانة ليس من الإسلام، وما لم يكن من الإسلام فهو من الجاهلية.
٣. أن الحلف بغير الله شرك أو كفر.
هذا هو ظاهر الأحاديث، وبهذا أخبر الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
حكم من حلف بغير الله:
وقد يقول قائل: هل يعني أن الحالف بغير الله خارجٌ من ملة الإسلام؟
الذي أعتقد وأدين الله به أن الحالف بغير الله نوعان:
١. رجل حلف هكذا دون اعتقاد، أو حتى فهمٍ لمعنى حلفه.
٢. وآخر حلف وهو مُقدسٌ معتقدٌ عالمٌ بما يفعل، ويعلم أنه غير جائز.
أما الأول؛ فإذا نُصح واستمع للنصح واستقام وامتنع عن الحلف بغير الله فليس بكافر، فعليه الاستغفار لأنه جاهل.
وأما الآخر وهو المعتقد العالم بما يعمل؛ فهذا لا يُشَكُّ أنه مشرك؛ لأنه اتخذ مع الله شريكًا وقد قامت عليه الحجة ولكنه معاندٌ مكابر، فهذا مشرك وإن سجد وركع وزعم أنه مسلم، ويلزمه تجديد إسلامه من جديد.
وإليك أخي ما كتبه فضيلة الشيخ/ سليمان بن عبد الوهاب في «تيسير العزيز الحميد»، وهو خير كتاب يُقرأ في التوحيد، إذ قال رحمه الله ص٥٩٣: «قوله: «فقد كفر أو أشرك» أخذ به طائفة من العلماء، فقالوا بكفر من حلف بغير الله، قالوا: ولهذا أمره النبي ﷺ بتجديد إسلامه بقول: «لا إله إلا الله»، فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك، وقال الجمهور: لا يكفر كفرًا ينقله عن الملة، لكنه من الشرك الأصغر كما نصَّ على ذلك ابن عباس وغيره».
وقال في الصفحة نفسها: «لكن الذي يفعله عُبّاد القبور إذا طلبت الأيمان من أحدهم بالله أعطاك ما شئت من الأيمان صادقًا أو كاذبًا، وإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته ونحو ذلك؛ لم يُقْدم على اليمين إن كان كاذبًا، فهذا شرك أكبر بلا ريب؛ لأن المحلوف به عنده أخوفُ من الله وأجَلُّ وأعظم من الله، وهذا ما بلغ إليه شرك عباد الأصنام؛ لأن جَهد اليمين عندهم هو الحلف بالله، كما قال تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨]، فمن كان جَهد يمينه الحلف بالشيخ أو بحياته أو تربته فهو أكبر شركًا منهم، فهذا هو تفصيل القول في هذه المسألة» انتهى ما قاله رحمه الله.
هل ينعقد الحلف بغير الله؟
وبالمناسبة أحب الإشارة إلى أن الحلف بغير الله لا ينعقد، ولا كفارة له سوى الاستغفار والتوبة وتجديد الإسلام.
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار» (٨/ ٢٣٧): «وأحاديث الباب تدل على أن الحلف بغير الله لا ينعقد؛ لأن النهي يدل على فساد المنهيّ عنه، وإليه ذهب الجمهور» انتهى.
الحلف بأسماء الله وصفاته:
وبقي أن ننوه إلى أن الحلف بأسماء الله وصفاته جائز، وإليك هذه الأحاديث:
١. عن ابن عمر قال: كان أكثر ما كان النبي ﷺ يحلف: «لا ومُقلِّب القلوب»، رواه الجماعة.
٢. وجاء في حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فنظر إليها فرجع، فقال: لا وعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها»، رواه البخاري ومسلم.
فهذه الأحاديث تفيد جواز الحلف بأسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى، وليس لهذا مخالف من السلف.
حلف الكشافة في الكويت فيه شرك:
بعد أن سُقنا ما مضى حول الحلف بالشرف توارد إلى ذهني حلف الكشافة في الكويت، ولما أعدتُه إلى الذاكرة كان الحلف كما يلي: «أعِدُ بشرفي أن أبذل غاية جهدي في أن أقوم بما يجب عليّ نحو الله والوطن… إلخ».
هذا الحلف أو العهد فيه مخالفتان شرعيتان:
الأولى: أنه يطلب من الكشاف أن يشرك بالله سبحانه «أعد بشرفي»، فهذا أمر منها للْيَوافِع من شباب الأمة أن يشركوا بالله سبحانه، وإننا نتساءل: ما الدافع لهذا؟ إننا مع ثقتنا بالمسئولين نقول لدينا:
١. أن يكون ذلك مقصودًا، وهذا نستبعده.
٢. أن يكون ذلك تم إما تقليدًا لبلد آخر أو عدم تدقيق، وهذا الذي نرجّح، فإذًا الشرك دخل على الطلاب من غير أن نتنبه له، وبهذه الطريقة يمكن أن تدخل أمور في عقائد المسلمين بسبب عدم تدقيق أولي الأمر في ذلك.
إخلاص النية وحده لا يكفي:
والسؤال الآن: هل يكفي عدم العلم والنية الحسنة لرفع الإثم؟
نقول: إن النية الحسنة وحدها لا تكفي، فإذا توفرتِ النية الحسنة يلزم أيضًا توافر صحة الطريق، فلا بد من نية حسنة وطريق مشروع لقبول الأعمال.
ومع التذكير بأن الجهل في الأصول ليس بعذر، خاصة إذا تعدى إلى تعليم الآخرين، وعلى ذلك فإننا نطالب الإخوة المسئولين عن شبابنا بوزارة التربية أن يبادروا لتغيير هذا الحلف، ويتوبوا إلى الله سبحانه، والله نسأل قبول توبتهم وحشرهم مع الموحدين، فإن كل ذنب يصغر -مهما كبر- إذا ما قيسَ بالشرك والعياذ بالله.
فأظهر -أخي المسلم الكشاف- عقيدتك، وأقسم بالله بدلًا من الشرف، وإياك والطاعة في المعصية؛ فإنها تودي بجهنم.
الثانية: والمخالفة الثانية فهي عطف «الوطن» على «الله» بحرف العطف «و»: «الله والوطن»؛ إذ إن الثابت في الشريعة إذا أُريد إدراج أي شيء مع الحق سبحانه يعطف بحرف العطف «ثم»، وذلك أن رجلًا قال للنبي ﷺ: ما شاء الله وشئت. فغضب الرسول ﷺ وقال: «أجعلتني لله ندًّا؟ قل: ما شاء الله ثم شئت». وأحاديث كثيرة في هذا الموضوع لم نذكرها للاختصار.
وأكرر القول بأني أرجو من الإخوة مسئولي التربية أن يبادروا بحذف صيغة الشرف واستبدالها بالله في القسم، وتبديل «الله والوطن» إلى «الله ثم الوطن»، وذلك حتى يُربى الشباب شاعرًا بقدسية الله سبحانه.
وإننا إذ نبلغهم فإننا نقوم بإلقاء تبعة الأمانة عنا وتحميلهم، ولئن يلقى العبدُ الله بذنوب لا تُعَد خير من أن يلقاه وهو به مشرك والعياذ بالله.
خاتمة القول:
وخلاصة القول أن الحلف بغير الله شرك يجب الحذر منه، وإننا نقول: إن سبب فساد العقيدة عند الناس التهاون في مسائلها، وخاصة استعمال الألفاظ، فاعلم أخي أن الله سبحانه قال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨].
فحاسب نفسك أخي قبل أن تحاسب، واعلم أنه لن ينفعك شيء إلا أن تأتي الله بقلب سليم وعمل صالح، والله نسأل للجميع الثبات والموت على اعتقاد الفرقة الناجية «الصحابة»، ونسأل الحق أن يحشرنا معهم ويلحقنا بهم، فإذا علمت أخي هذا فالزمه، فإنه -والله- خيرٌ لك من الدنيا وما فيها، وعُضَّ عليه بالنواجذ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.