إن مما خالف فيه الرسول ﷺ أهل الجاهلية وعابه عليهم أنهم كانوا يرون الاختلاف والفرقة دينًا ومنقبةً وفضيلةً، كما تعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا ٱلصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: ٣١، ٣٢]، فعاب سبحانه ذلك عليهم، ونهى عن مشابهتهم، وخالفهم صلوات الله وسلامه عليه وبيَّن أن الأمة يجب أن تكون أمةً واحدةً عقيدةً ومنهجًا، ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢]، فأوجب الوحدة والائتلاف، وحرّم الفرقة والاختلاف، وشرع من الشرائع ما يعزّز الأُخوَّة الإيمانية ويزيد من أواصر المحبة بين أفراد الأمة المسلمة الموحّدة.
وقد امتنّ الله على أهل الإيمان بقوله: ﴿وَٱعْتَصِمُوا بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَٱذْكُرُوا نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ ٱلنَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٣، ١٠٤]، وقوله سبحانه: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: ١٣]، ونهى عن موافقة الكفار بقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَٱخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٠٥].
وأخبر سبحانه أن الأمة ستفترق، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [هود: ١١٨، ١١٩]، فاستثنى الله -سبحانه- من المختلفين المرحومين، وهم الفرقة الناجية المهتدية المتمسكة بسنة النبي ﷺ، كما وضح ذلك صلوات الله وسلامه عليه بحديث الافتراق، حيث قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة».
وهنا لا بد من تقرير قضية، وهي: هل العلماء الأعلام يُجيزون تعدد الجماعات كما يشيع البعض عنهم؟ حيث قام بعض الكُتاب بنقل فتاوى العلماء حول دعوة هذه الجماعات إلى التعاون، وأن هذه الجماعات فيها خير وأنها تقوم بجهد دعوي.. إلى غير ذلك من الأمور.
هل هذا يعني إقرارًا من العلماء بإنشاء جماعاتٍ على غير عقيدة ومذهب السلف؟
الذي نراه بعد تتبع لأقوال العلماء الأفاضل أنهم لا يمكن أن يُقِرّوا دعوةً تقوم على غير الحق، وبالتالي فهم يُقررون أن التعدد لا يجوز وأن الأمة يجب أن تكون واحدةً، وقد حدد هذه المعالم شيخ السلفيين في هذا العصر العلامة/ عبد العزيز بن باز في رده على الشيخ/ عبد الرحمن عبد الخالق، حيث قال الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: «دعوتكم في كتابكم «مشروعية الجهاد» ص٢٨ إلى تفريق المسلمين إلى جماعات وأحزاب، وقولكم: «إن هذا ظاهرة صحية»، ولا يخفى أن هذا مصادم للآيات القرآنية والأحاديث النبوية» «تنبيهات وتعقيبات» ص٣٩.
وكلُّ ناظر لهذه المقولة من سماحة الشيخ يدرك فيها:
أولًا: إن القول بأن «تعدد الجماعات ظاهرة صحية» خطأ، ومعنى ذلك أن التعدد ظاهرة مرضية تحتاج لعلاج، بل واجتثاث إن لم ينجح العلاج.
ثانيًا: إن هذا القول مصادم للآيات القرآنية، فكيف يقال بعد ذلك: إن العلماء يقرون قيام جماعات على غير منهاج السلف؟!
وإذا نظرنا إلى الإفرازات التي أفرزتها هذه الجماعات؛ نرى أن عامة ما يواجه الأمة الآن من ثورات وعودة لمذهب الخوارج وتخبط في التصورات، بل في تقييم المذاهب والأديان؛ كل ذلك إفراز لهذه الجماعات التي أُسِّستْ على غير منهاج النبوة.
فإذا عدلت هذه الجماعات مناهجها، وقومت عقيدتها بما يوافق العقيدة الصحيحة، والتزمت وتبرأت من كل ما يخالف ذلك؛ فعند ذلك نرى أن التنوع في الأعمال لا حرج فيه، بل كلٌّ ميسر لما خُلق له، وعند ذلك يصبح هذا التنوع مما يؤدي إلى تقدم الأمة المسلمة لا تناحرها وتأخرها.
ولعلنا -بهذا البيان- قد أزلنا اللبس الذي علق في الأذهان حول الموقف من تعدد الجماعات والأحزاب، وإنا مع ذلك لا نحقر مسلمًا، ولا نبخس الناس أشياءهم، ولا نتّهم فيه أحدًا، بل نذكر للمحسن حسنه ونثني عليه وندعو له، ونذكر سوء علم المسيء وندعو له، سالكين بذلك مسلك أهل الفضل والخبرة من الصحابة والأئمة الأعلام من أعلام الدعوة السلفية في كل العصور.
وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وفي رواية: قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»، وفي رواية أبي داود: «وواحدة في الجنة وهي الجماعة».
ويقول ابن كثير رحمه الله: «وقد وقع ذلك في الأمة، فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه».
والأساس الذي تُبنى عليه الجماعة هم أصحاب محمد ﷺ ورضي عنهم، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضلَّ وابتدع، فالذي نعتقده ونقرره أن الخلاف شر والفرقة عذاب، وأن الأمة يجب أن ترجع لأصلها ومنهجها القويم، وذلك بالسير على درب الصحابة -رضوان الله عليهم- لقوله ﷺ: «لا تزال عصابة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون»، وغيره.
وعليه؛ فإنا لا نُقِرُّ أي مذهب أو طائفة أو طريق أو فرقة أو حزب أو جماعة تقوم على غير هدي السلف ومنهاج الصحابة، فأي تَكَتُّلٍ قام ويقوم على عقيدة ومنهج يخالف ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين؛ نراه تجمعًا باطلًا، كما دوَّن ذلك الشيخ/ بكر أبو زيد في كتابه «حكم الانتماء» ص١٢٥.
وعليه؛ فإن إنشاء أي حزب في الإسلام يخالفه بأمر كلي أو بجزئيات لا يجوز، ويترتب عليه عدم جواز الانتماء إليه، ولنَعْتَزِلْ تلك الفرق كلها.
وعليه؛ فلا يجوز الانصهار مع راية أخرى تخالف راية التوحيد بأي وجه كان: وسيلةً أو غايةً، ومعاذ الله أن تكون الدعوة على سنن الإسلام مظلة يدخل تحتها أي من أهل البدع والأهواء، فيغض النظر عن بدعهم وأهوائهم على حساب الدعوة.
وليس أمامنا إلا الإسلام في صفائه وسيرته الأولى على منهاج النبوة: الكتاب والسنة، نؤمن به، وندعو إليه، ونعمل به، ولا نخالفه باسم ولا رسم، ولا وسيلة ولا غاية؛ هو المَرَدُّ عند التنازع والاختلاف، فالدعوة بجميع مراحلها مضبوطةٌ برسم الشرع، بمقاييسه وموازينه العادلة، ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: ١٠١].
تلكم هي بديهية يجب أن تكون واضحةً لدى كل مسلم ومن المُسَلَّمات لديه، وإذا استقر ذلك في قلبك ووعاه عقلك، فانظر -رحمك الله- إلى واقع الأمة الآن، هل هو محقَّق فيه هذه البديهية، أم أن الأحزاب قد عاثت في الأرض الفساد ونشرت الفُرقة والبغضاء وخربت الأمة؟