الصراط المستقيم: هو صراط الله وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه، ويخبر أنه سبحانه على صراط مستقيم، وهذا في موضعين من القرآن: في هود والنحل، قال في هود: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦]، وقال في النحل: ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ٧٦]، فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، وهي كََلٌّ على عابدها، يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه، فكيف يُسوّونه في العبادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد، وهو قادر متكلم غني، وهو ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ في قوله وفعله؟! فقوله صدق ورشد ونصح وهدى، وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة، هذا أصح الأقوال في الآية، وهو الذي لم يذكر كثيرٌ من المفسرين غيره، ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال ثم حكاها بعده كما فعل البغوي، فإنه جزم به وجعله تفسير الآية ثم قال: «وقال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم».
قلت: ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط المستقيم، فإن دلالته بفعله وقوله، وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله، فلا يناقض قول من قال: إنه سبحانه على الصراط المستقيم.
قال: وقيل: هو رسول الله ﷺ يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
قلت: وهذا حق لا يناقض القول الأول، والله على الصراط المستقيم ورسوله عليه، فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا بمقتضاه وموجبه، وعلى هذا يكون المثل مضروبًا لإمام الكفار وهاديهم وهو الصنم الذي هو أبكم لا يقدر على هدى ولا خير، ولإمام الأبرار وهو رسول الله ﷺ الذي يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
وأما آية هود؛ فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدًا، وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم، وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم؛ فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: ١١٥]، وأفعاله كلها مصالح وحِكَم ورحمة وعدل وخير، فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله البتة؛ لخروج الشر عن الصراط المستقيم، فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله؟ وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله.
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام: «لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك»، ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله: «والشر لا يتقرب به إليك»، أو «لا يصعد إليك»؛ فإن المعنى من أجل ذلك أكبر وأعظم قدرًا، فإن أسماءه كلها حسنى، وأوصافه كلها كمال، وأفعاله كلها حِكم، وأقواله كلها صدق وعدل؛ يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أقواله، فطابق بين هذا المعنى وبين قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ أي: هو ربي، فلا يسلمني ولا يضيعني، وهو ربكم فلا يسلطكم عليّ ولا يمنعكم مني؛ فإن نواصيكم بيده، لا تفعلون شيئًا بدون مشيئته؛ فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه، فهو المتصرف فيها، ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة، ولو سلّطكم عليّ فله من الحكمة في ذلك ما له الحمد عليه؛ لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم، لا يظلم ولا يفعل شيئًا عبثًا بغير حكمة.
فهكذا تكون المعرفة بالله، لا معرفة القدرية المجوسية والقدرية الجبرية -نُفَاة الحكم والمصالح والتعليل- والله الموفق سبحانه.