الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ويسعدنا أن نلتقي معكم في حلقات متتابعة نشرح فيها مسألة مهمة من المسائل المتعلقة بالعلاقة بين العبد وربه، ألا وهي «العبودية»، وقد تساءل المفكرون: لماذا خُلقتُ؟ وإلى أين المصير؟ هل لهذه الحياة هدف، أم أنها فوضى لا هدف لها؟
خاض الفلاسفة قديمًا وحديثًا حول هذا، وتقاذفتهم الأفكار ذات اليمين وذات الشمال، وكلهم يظن أن لديه جوابًا، وكلما جاءت أمة هدمت فكر سابقتها وظنت أنها وصلت إلى ما لم يصل إليه السابقون، ولكن كما قال صاحبهم:
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا قيل وقالوا
فأين الصواب؟ وكيف تفسر علة الخلق وفلسفة الحياة؟ لا جواب لدى أحد سوى خالق الكون والإنسان، ومن سلك غير هذا فإنما هو سائرٌ خلف سراب، والإنسان دائم البحث في هذا، دائم التفكير في ذاته، إذ إن كل جهل -مهما عظمت نتائجه- قد يغتفر إلا أن يجهل الإنسان سر وجوده وغاية حياته ورسالة نوعه وشخصه في هذه الأرض.
وأكبر عارٍ على هذا الكائن الذي أُوتي العقل والإرادة أن يعيش غافلًا، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، لا يفكر في مصيره ولا يدري شيئًا عن حقيقة نفسه وطبيعة دوره في هذه الحياة حتى يوافيه الموت بغتةً فيواجه مصيره المجهول دون استعداد له، ويجني ثمرة الغفلة والجهل والانحراف في عمره الطويل أو القصير، وحينئذٍ يندم حين لا ينفع الندم ويرجو الخلاص ولات حين مناص.
لهذا كان لزامًا على كل عاقل أن يبادر فيسأل نفسه بجد: لماذا خلقت؟ وما غاية خلقي؟
والحياة نوعان: حياة إنسانية وحياة حيوانية بهيمية، ولكلٍّ من الحياتين هدف وغاية خلق لها، فالإنسان خُلق ليكون إنسانًا ولكن يستطيع أن يهبط بإنسانيته ليكون حيوانًا، بل أخس منه! فما الفرق بين الإنسان وبهيمة الأنعام؟ في الظاهر يتشابه الإنسان والحيوان الذي لا إدراك له ولا تمييز، الحيوان لا يفكر والإنسان يفكر، والذي لا يعمل عقله من الناس إنما ينزل بنفسه ليكون حيوانًا من البهائم.
ولذلك فالذي ليس في حياته سوى الأكل والشرب والتمتع إنما هو مثل البهائم بل أخس؛ إذ إنه نزل للحياة الحيوانية بإرادته، وأولئك خُلقوا هكذا.
اسمع صفتهم كما يصفهم خالقهم: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَٱلْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٩].
وقال سبحانه أيضًا: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٤].
فليس للمرء إذًا من خيار سوى أن يصبح إنسانًا مُستعمِلًا عقله فيما خلقه الله له أو يكون مثل بهيمة الأنعام، وعندما تقرر بإرادتك وحدك ووفق رغبتك أي الحياتين تريد: الإنسانية أو الحيوانية، فإن اخترت الثانية فلا حديث لنا معك وعافاك الله من ذلك، وإن اخترت الأولى -وهذا العهد بك- فلنا معك حديث ندلك على الطريق السليم ليصلك بربك سبحانه الذي خلقك فسوّاك.
ولعلك تسأل الآن: إذا كان مجرد الاكتفاء بالاستمتاع بالحياة الدنيا والتلذذ بها غير مقصود، فلماذا خلق الله هذه المتع كلها والأنعام؟
فجوابنا: إنها خلقت لك أنت، وهذه مكرمة كرمت بها ونعمة أخرى تسدى لك، فهل أنت مدركها؟
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ [يٓس: ٧١-٧٣].
وقال سبحانه وتعالى أيضًا: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥]، فهذه الأنعام خلقت لك حتى تستطيع القيام بدورك في الحياة وهو العبادة.
فإن أنت تمتعت بها ولم تقم بالمطلوب يكن تمتعك حرامًا؛ لأنها لم تُخلق لك لمجرد المتعة، بل لتعينك على الطاعة، ولذلك فإنك -رحمك الله- ستُسأل عن النعيم كله، قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ﴾ [التكاثر: ٨]، فتدبر واعقل واسأل الله الهداية.
ولذلك نقرر هنا أنك خلقت للعبادة فقط دون سواها، واسمع قول الحق سبحانه واجعله يلامس شَغَاف قلبك: ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٦-٥٨].
ويقول الحق سبحانه: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ ٱللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢]، فجعلت هذه الآية معرفة الله الغاية من خلق السموات والأرض، ومهما بحثت فلن تجد غير هذا الجواب للسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا خلقنا؟ فنقول: للعبادة كما أخبر الله، إذ هو الخالق سبحانه وتعالى.
ولن ترتاح النفس الإنسانية وتسعد إلا عندما تلبي نداء الله، فاقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طٰه: ١٢٤]، فاعقل هذا لا حُرِمتَ نور البصيرة وإلا فستشقى، وإلى لقاء آخر نجلو لك الأمر لتعرف الطريق الموصّل إلى السعادة في الدارين.
(٢- ١٣)
الرسل أرسلوا لتحقيق العبودية()
أكبر وصف وصف به المصطفى ﷺ أنه عبد الله ورسوله: ﴿سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَى﴾ [الإسراء: ١]، ولما كانت هذه القضية الكبرى التي من أجلها خلق الله الكون والإنسان -وحيث إن العبد مهما سما لم ولن يستطيع التعرف على حقيقة مراد الله سبحانه- أرسل الرسل على فترات، وكانت دعوة كل رسول منهم ﴿أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُوا ٱلطَّاغُوتَ﴾ [النّحل: ٣٦]، و﴿ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩].
فانظر -يا عبد الله- كيف أن كل رسول من هؤلاء كان يركز على العبودية لله؟ وكما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا أَنَا فَٱعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]، وقال جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُوا ٱلطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَالَةُ﴾ [النحل: ٣٦].
ويعلق الحافظ ابن كثير على هذه الآيات فيقول في هذه الآية: «وكلهم -أي: الرسل- يدعو إلى عبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه: ُ﴿أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُوا ٱلطَّاغُوتَ﴾، فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك، منذ حدث الشرك في بني آدم؛ في قوم نوح -الذين أرسل الله إليهم نوحًا وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض- إلى أن ختمهم بمحمد ﷺ الذي طَبَّقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب».
فانظر -يا عبد الله- كيف أن هذه الآيات دلت على أن حكمة الله في إرسال الرسل دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين وإن اختلفت شريعتهم.
والرسل في دعوتهم لأممهم ركزوا على إرشاد العباد إلى الحقيقة الكبرى وهي أنهم خُلقوا لعبادة الله سبحانه، وبينوا لهم أنهم ما خلقوا عبثًا كما قال جل وعلا: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥].
قال قتادة رحمه الله: «كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟».
وقد تحمل الرسل الأذى كله من قومهم حين دعوهم لتحقيق العبودية لله، وكان شعار الجاهلية قاطبة ﴿أَجَعَلَ ٱلْآلِهَةَ إِلـٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥].
وتنادوا فيما بينهم على الصبر على الشرك، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: ﴿أَنِ ٱمْشُوا وَٱصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ [ص: ٦].
وحبيبنا المصطفى ﷺ قد بذل من الجهد في دعوته قومه لأن يقولوا: «لا إله إلا الله»، وأصدق وصف لما كان يعانيه ﷺ وهو يدعو قومه قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦].
ومن أجمل ما قاله ابن تيمية رحمه الله: «إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما زاد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل من أجهل الخلق وأضلهم».
وقال جل وعلا: ﴿وَٱذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ ٱلْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: ٢٠٥]، فالرسل -يا عبد الله- كلهم كان شعارهم ﴿قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ [الزمر: ١٤]، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢]، فليكن هذا شعارنا جميعًا، به ننادي وعليه نحيا ونموت، وإلى لقاء آخر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(٣-١٣)
ما هي العبادة؟()
العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، بهذا عرَّفها العلماء، فهي تتضمن معنى الذل والحب، وهي تدور بين الحب والخوف والرجاء، وكل ما في الوجود إنما هو خاضع لله ربِّ العالمين: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [الرعد: ١٥].
ويقرر ابن القيم -رحمه الله- أن العبودية هي المحبة لله فيقول: «فأصل العبادة محبة الله -بل إفراده بالمحبة- وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه؛ فمحبتنا لهم من تمام محبته وليست محبة معه كمحبة ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥]».
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة العبودية له وسرّها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فبعد اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله عَلَمًا عليها وشاهدًا لمن ادعاها، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] فجعل اتباع رسوله مشروطًا بمحبتهم لله وشرطًا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحقيقه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذًا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.
فالعبادة -يا عبد الله- انقيادٌ لشرع الله مع محبة وتسليم ورضا بما قدّر الله سبحانه، كما قال جلَّ وعلا: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥]، فهذه الآية أشارت إلى أن مجرد التسليم لا يكفي؛ بل من رفع الحرج من النفس والرضا بما حكم الله سبحانه.
إذًا العبادة ليست الطاعة فقط، بل لا بد من ارتباط التسليم القلبي مقرونًا بالحب والخوف والرجاء، ولذلك من صرف شيئًا من هذا لغير الله تعالى فيما هو خاص بالله كان مشركًا بالله سبحانه، ولما كانت العبودية هي الغاية قدمت في الفاتحة في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
فالعبد يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم بعد أن قرر أنه لا يعبد إلا الله بقوله حصرًا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، والاستعانة وسيلة توصّل العبد لهذه الغاية الكبرى، أي: إنه يقرر أنه سيستعين بالله للوصول إلى غايته وهي العبودية.
فتدبر حالك -رحمك الله- هل إذا جاءك الأمر من الله ورسوله ينشرح صدرك وتندفع جوارحك، أم تجد في نفسك غير ذلك؟ هذا هو محك الإيمان، واقرأ معي متدبرًا قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَٱعْلَمُوا أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٤].
فالعبودية نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي عبودية أهل السموات والأرض كلهم؛ برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ ٱلْأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ إِلَّا آتِي ٱلرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٨٨-٩٣].
والثاني: العبودية الخاصة كعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، قال تعالى: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الزخرف: ٦٨].
فاحرص يا طالب الجنة على أن تحقق في نفسك هذه العبودية النابعة من المحبة والخوف والرجاء، واحذر من أن يحصل لديك شكّ أو اعتراض على ما حكم به الله سبحانه فتشقى مع من يشقى في الدارين، وإلى لقاء نتابع فيه أمر العبادة.
(٤-١٣)
شمول العبادة لمناحي الحياة كلها()
مضى القول -أيها القارئ الكريم- أن العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فهي تشمل: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار، والإحسان إلى الجار والفقير والمسكين.
وهي كذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص النية، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه؛ فكل ذلك عبادة لله رب العالمين.
فالدين كله داخل في العبادة، فشرائع الدين جميعها إنما هي عبادة لله رب العالمين، يجمعها قول الحق سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
وبهذا تظهر الحقيقة الأساسية، ألا وهي أن العبادة تشمل مناحي الحياة جميعها، وبه تُدرك -يا محب الخير- أن العرف الشائع لدى جمهرة من الناس أن العبادة هي الصلاة والصيام والحج والزكاة والصدقة وما إلى ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يظن أن الأخلاق والصلات وإتقان العمل له علاقة بالعبادة.
إن هذا المفهوم الضيّق والمخالف لشرع الله هو الذي جعل جمهرة من المسلمين يخالف واقعهم الدين، فترى الكذب والغش والخداع والغيبة وإهمال الأعمال و… وكل هذه الأخلاق الفاسدة المتواجدة لدى الأمة اليوم تخالف مفهوم العبادة الحقة.
فالإسلام أراد للعبد الرقي والتزكية، ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢]، فالرقي بالإنسان ليبلغ السمو في إنسانيته هو ما عبّر عنه الرسول ﷺ بقوله: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
إن من لوازم العبودية لله أن يخضع العبد في أموره كلها لله رب العالمين، وأن يكيّف حياته لتكون موافقة لمراد الله سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦]، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٥١].
ونعرضُ هنا بعض النماذج من الأعمال التي هي من العبادة، وإن غفل عنها الناس:
١. ما قاله المصطفى ﷺ: «وفي بُضْع أحدكم صدقة». قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟». قالوا: نعم. قال: «كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» رواه مسلم.
٢. وحتى الزراعة والغرس لصاحبه الأجر، كما نص على ذلك الحبيب المصطفى ﷺ: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة؛ إلا كان له به صدقة» متفق عليه.
٣. ويبين ﷺ: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» راوه الترمذي وغيره.
ولعل قول النبي ﷺ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» هو الوصف الجامع للعبادة بأوسع معانيها.
وبعد يا عبد الله، لعلك قد بانَ لك أن العبادة تشمل جميع حياتك، ولنجعل شعارنا جميعًا ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢].
(٥-١٣)
عبادة القلب()
ها نحن نلتقي معكم مرة أخرى لنتابع حديثنا حول العبودية؛ لنرى كيف نحقق «عبادة القلب»؛ ذلكم أن هذه المضغة عليها مدار الأمر كله كما نص على ذلك النبي ﷺ: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» رواه البخاري.
ويعبِّر عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق والعمل تابع له، ولهذا فسَّر النبي ﷺ الإيمان بإيمان القلب وبخضوعه، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وفسر الإسلام باستسلام مخصوص وهو المباني الخمسة».
وأصل عبادة القلب الإخلاص لله فاطر السموات والأرض: ﴿قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ [الزمر: ١٤]، وهي التي تربي في الإنسان صفة المراقبة لله ربِّ العالمين، واضعًا نصب عينيه قوله تعالى: ﴿وَٱعْلَمُوا أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥]، وفي حديث الرسول ﷺ حول الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
فهذه الدرجة العالية من المراقبة لله هي أهم أعمال القلب، فيولد له من العمل ما يجعله يزيد في مراقبته لله وخشيته له، فإنه عند ذلك تكون منزلة الخوف، وهي كما عبَّر عنها ابن القيم رحمه الله: «وهي من أجلِّ منازل الطريق وأنفعها للقلب، وهي فرض على كل أحد، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٧٥]، وقال تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ﴾ [البقرة: ٤٠]، وقال: ﴿فَلَا تَخْشَوُا ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ﴾ [المائدة: ٤٤]، ومدح أهله في كتابه وأثنى عليهم فقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57] إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١]، وفي المسند والترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، قول الله: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: ٦٠] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: «لا يا بنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف ألّا يُقبَل منه».
قال الحسن: «عملوا -والله- بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن تردّ عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا».
و«الوجل» و«الخوف» و«الخشية» و«الرهبة» ألفاظ متقاربة غير مترادفة، قال أبو القاسم الجنيد: «الخوف: توقع العقوبة على مجاري الأنفاس».
وقيل: «الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف».
وقيل: «الخوف: قوة العلم بمجاري الأحكام، وهذا سبب الخوف لا أنه نفسه».
وقيل: «الخوف: هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره».
و«الخشية» أخص من الخوف؛ فإن الخشية للعلماء بالله، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨] فهي خوف مقرون بمعرفة.
وقال النبي ﷺ: «إني أتقاكم لله، وأشدكم له خشية» رواه مسلم، فالخوف حركة والخشية اجتماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان:
إحداهما: حركة للهرب منه، وهي حالة الخوف.
الثانية: سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه، وهي الخشية.
وأما «الرهبة» فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد «الرغبة» التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه.
وبين الرهَب والهرَب تناسب في اللفظ والمعنى، يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع.
وأما «الوجل»: فرَجَفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته، أو لرؤيته.
وأما «الهيبة»: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة، والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.
فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء، والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال النبي ﷺ: «إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية»، وفي رواية «خوفًا»، وقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرُش، ولخرجتم إلى الصُّعدات تجأرون إلى الله تعالى» ا. هــ.
والخوف إذا استقر في قلب العبد المسلم يجب أن يتلازم معه الرجاء والمحبة، والرجاء كما وصف ربنا -جلَّ شأنه- أهله: ﴿أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: ٥٧]، فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة، فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه: الحب والخوف والرجاء، قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَآتٍ﴾ [العنكبوت: ٥]، وقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلـٰهُكُمْ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨].
وفي صحيح مسلم، عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه»، وفي الصحيح عنه ﷺ: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي، فليظن بي ما شاء». فالرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، ويطيب لها السير.
فهذا يا عبد الله هو عمل القلب وهذه عبادته، فتدبرها وانظر لحال قلبك كيف هو إذا لامس شَغَافه القرآن.
(٦-١٣)
عبادة الجوارح()
نقصد بالجوارح جميع أعضاء الإنسان من اللسان واليد والرجل والعينين؛ فالجوارح يقوم بواسطتها العبد بالعبادات كلها.
فهي إما أن تشهد لك بالخير والعمل الصالح، أو تشهد عليك بما قدمت ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٤].
فأنت يا عبد الله عندما ينطق لسانك بالشهادتين فأنت عابد، وأنت عندما تسبِّح الله وتكبِّره بلسانك فأنت عابد له.
قال رجل لرسول الله ﷺ: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فمرني بأمر أتشبث به، فقال: «لا يزال لسانك رَطْبًا من ذكر الله».
وسبق أن ذكرنا لكم عبادة القلب، أما عبادة اللسان فهي:
١. النطق بالشهادتين وتلاوة القرآن والأذكار، وردّ السلام وتعلُّم العلم، وكذلك الابتعاد عن الكذب والسبّ والشتم وشهادة الزور، كل ذلك يجب أن تجتنبه يا عبد الله، ولتعلم أن اللسان يسوق صاحبه إلى الجنة أو إلى النار كما بيَّن المصطفى ﷺ؛ فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي ﷺ في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسَّره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل». قال: ثم تلا: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ﴾ حتى بلغ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: ١٥-١٧] ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذِرْوة سَنامه؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» ثم قال: «ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟» قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ لسانه وقال: «كُفَّ عليك هذا». فقال: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثَكِلَتْك أمك يا معاذ! وهل يَكُبّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم».
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ قال: «من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة».
فاحذر يا عبد الله أن يسوقك لسانك إلى جهنم أعاذنا الله منها.
وأما عبادة الجوارح، فالنظر الحرام يجرّ للزنا والعياذ بالله.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة؛ فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تَمَنَّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه» متفق عليه.
وفي رواية عند مسلم: «والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطَا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدّق ذلك الفرج ويكذّبه».
ولكن لو سخر الإنسان نظره لقراءة القرآن، والنظر في ملكوت السموات والأرض، والتدبّر في الملكوت؛ فإن تجول النظر عبادة عظيمة كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَافِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي ٱلْأَلْبَابِ * ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠، ١٩١].
والجوارح الأخرى -كاليد والرجل- فهذه عبادتها الكبرى الجهاد في سبيل الله، كما قال الحبيب ﷺ: «ما اغبرّتْ قدما عبد في سبيل الله فتمسَّه النار» أخرجه البخاري وغيره. وفي رواية النسائي: «فهو حرام على النار». وفي رواية الترمذي «فهما حرام على النار».
(٧-١٣)
عبادة الجوارح()
وللسعي إلى المساجد الأجر العظيم، فهاك حديث نبينا ﷺ: «من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نُزُله من الجنة كلما غدا أو راح» متفق عليه.
وما تقوم به -يا عبد الله- من ركوع وسجود في الصلاة ومن وضوء قبلها، كل هذا عبادة للجوارح، وكم من الناس قد سخَّر جوارحه لعبادة غير الله تعالى!
إن عبادة الجوارح شأنها عظيم، إذ إنك -وفقك الله- لو تدبرتَ أعمال الحج وحدها لعلمت كيف أن هذه الجوارح تقوم بأعمال عبادية عظيمة، فكيف بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؟!
إذًا يا عبد الله انظر لنفسك كيف تستغل هذه الأعضاء التي خلقها الله لك، وتدبر معي حديث النبي ﷺ: «الإيمان بضع وسبعون شُعْبة، أعلاها شهادة أن لا إلٰه إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».
فإذا أنت -يا عبد الله- عملت بهذا الحديث؛ ظهر لك كم ضيَّعت من قراريط من الأجر! ولو نظرت لقوله ﷺ: «تبسمك في وجه أخيك صدقة» لظهرت لك عظمة هذا الدين.
من أجل ذلك نحن ننادي كل مسلم أن يخلص النية لتصبح حياته بعد ذلك كلها عبادة وقربة لله ربِّ العالمين.
فهو في عبادة عندما يمارس الطاعات، كذلك هو في عبادة عندما يأتي أهله، وهو في عبادة عندما يداعب أهله ويطعمهم، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: إن أناسًا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفُضول أموالهم، قال: «أَوَليسَ قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» رواه مسلم.
وقال أيضًا في حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ في حديث جاء فيه: «وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك» متفق عليه.
وهو في عبادة عندما يصل رحمه، فعن سلمان بن عامر -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان؛ صدقة وصلة» حديث حسن.
وهو في عبادة عندما يُكرم ضيفه، فعن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته»، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: «يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه» متفق عليه.
وهو في عبادة عندما يصلح بين اثنين، وهو في عبادة عندما يعين محتاجًا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «كل سُلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة. تعين الرجل في دابته، فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة…» متفق عليه.
وهو في عبادة عندما يعين أخرق لا يحسن صنعته، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أي الرقاب أفضل؟ قال: «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا» قلت: فإن لم أفعل؟ قال: «تعين صانعًا أو تصنع لأخرق»، الحديث متفق عليه.
إذًا تستطيع يا عبد الله أن تجعل يومك عبادة وليلك عبادة، فاحرص على ذلك هُديت للرشد، وإلى لقاء آخر إن شاء الله.
(٨-١٣)
شروط قبول العبادة()
ها نحن نلتقي اليوم معكم لنكمل مسيرتنا للتعرف على حقيقة العبودية لله رب العالمين، نسير معًا لنحقق هذه الغاية العظمى التي من أجلها خلقنا الله سبحانه وتعالى، واليوم نناقش أمرًا في غاية الأهمية، وهو ما هي شروط قبول العبادة؟
وقبل أن نَلِجَ في الموضوع لنتذاكر معًا -أيها الإخوة الكرام- أهمية هذه القضية، فنقول:
إن العبد ليشقى في الدنيا ويَنْصَب ثم يأتي يوم القيامة ظانًّا أنه ملاقٍ عملًا صالحًا يدخله الجنة، فإذا به يواجه الحقيقة المرة التي أخبر الله -سبحانه وتعالى- بها، وهي ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِٱلْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٣، ١٠٤]، وقوله جل وعلا: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفُرقان: ٢٣].
انظر لنفسك -يا عبد الله- عندما تقدم على ربك سبحانه، هل سترى أعمالك بين يديك؟ أم أنها ستكون هباءً منثورًا؟ وحتى ندرك أهمية المسألة وخطورتها نسوق لكم حديث الرسول ﷺ حيث يقول: «إني فَرَطكم على الحوض، من مرَّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، لَيَرِدَنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يُحال بيني وبينهم فأقول: سُحْقًا سُحْقًا لمن غيّر بعدي».
ومن أجل ذلك كان حرص الحبيب المصطفى ﷺ عليك -يا عبد الله- ألّا تطرد عن الحوض، وتعالَ معًا نتدبر شدة حرصه ﷺ على أمته، فالله -عز وجل- ذكر ذلك في مواضع شتى، منها قوله سبحانه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨]، وقوله: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ [النمل: ٧٠]،وباخع بمعنى: مهلكٌ نفسَك بحزنك عليهم.
وقوله -جل وعلا- في وصف حرص المصطفى ﷺ على أمته: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨].
وأما هو -صلوات الله وسلامه عليه- فيقول: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفَراش يقعن فيها وهو يذبُّهن عنها، وأنا آخذ بحُجَزِكم عن النار وأنتم تَفْلِتون من يدي» رواه مسلم.
فانظر -رحمك الله- إلى جميع أعمالك، هل حققت فيها شروط القبول، أم أنك سِرْتَ فيها مع الناس دون نظر وتحقيق؟!
ذلكم أن الإحداث في الدين أمره عظيم وشره مستطير، بل هو أعظم بَليّة ابتُليتْ بها هذه الأمة، فبعد أن عجز أعداؤها عن هزيمتها بالسلاح لجئوا إلى تشويه معالم الدين الحق.
(٩-١٣)
شروط قبول العبادة()
وانظر -رحمك الله- إلى ما قرره الإمام الشاطبي -رحمه الله- حيث يقول الدكتور/ علي بن ناصر فقيهي ما نصه: «إن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌّ له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصة، على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها، بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها والشر في تعدّيها؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول ﷺ رحمة للعالمين.
فالمبتدع رادٌّ لهذا كله؛ فإنه يزعم أن ثمَّ طرقًا أُخر، وليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عيَّنه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضًا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع. قال: وهذا العمل من المبتدع إن كان مقصودًا فهو كفران، وإن كان غير مقصود فهو ضلال.
ثم إن المبتدع -بعمله هذا- قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سُننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون.
فالشرع ليس من مدركات العقول حتى يضع كل إنسان تشريعًا من نفسه، ولو كان الأمر كذلك لما احتيج إلى بعثة الرسل إلى البشرية.
فكان هذا المبتدع في دين الله قد صيّر نفسه نظيرًا ومضاهيًا للشارع، حيث عمل تشريعًا مثله وفتح باب الاختلاف والفرقة.
ثم إن العمل من المبتدع أيضًا اتباع للهوى والشهوات، والله يقول: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ ٱللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠]، فمن لم يتبع هدى الله واتبع هوى نفسه، فلا أحد أضل منه.
إن هذا المبتدع في دين الله -عز وجل- الذي جعل نفسه مضاهيًا للشارع قد جاء ذمّه في كتاب الله عز وجل؛ لأنه من زاغ أزاغ الله قلبه، إذ الجزاء من جنس العمل، فالله يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] وذلك باتباعهم المتشابه من القرآن، وترك محكمه وابتغائهم تأويله، أي: تحريفه، قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧].
فقد صحَّ عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: سُئل رسول الله ﷺ عن هذه الآية: ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ﴾ -إلى آخر الآية- فقال رسول الله ﷺ: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم»، وفي رواية قال: «فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه؛ فهم الذين عنى الله فاحذروهم».
وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٥٩]، قال ابن كثير: «أي: فِرَقًا كأهل المِلَل والنِّحَل والأهواء والضلالات، فالله قد برَّأ رسوله مما هم فيه».
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣].
ومن أجل ذلك كان السعي لحماية العبادة من أن يصرف شيء منها لغير الله هو الجهد الأكبر المبذول لدى العلماء على مَرِّ السنين، فاحرص -يا عبد الله- على ألا تضيّع عبادتك.
(١٠-١٣)
تنبيه مهم()
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ ٱللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠]، الآية المذكورة عيّنت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقتين، إحداهما: الشريعة، ولا مرية في أنها علم وحق وهدى، والأخرى: الهوى وهو المذموم؛ لأنه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذم، ولم تجعل ثمَّ طريقًا ثالثًا، ومن تتبع الآيات ألفى ذلك كذلك.
حكم العقل المجرد قاعدة مزلزلة:
وإذا ثبت هذا، وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى؛ تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد، فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى، فهو إذًا اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام.
ذم البدع من جهة النقل:
وأما النقل فمن وجوه:
أحدها: ما جاء في القرآن مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله بالجملة، فمن ذلك:
١. قول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣]، الصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السُّنَّة، والسُّبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع، وليس المراد سبل المعاصي؛ لأن المعاصي من حيث هي معاصٍ لم يضعها أحد طريقًا تسلك دائمًا على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات.
وعن مجاهد في تفسير قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا ٱلسُّبُلَ﴾ قال: «البدع والشبهات».
٢. وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النحل: ٩]، قصد السبيل هو الطريق الحق، وما سواه جائر عن الحق أي: عادل عنه، وهي طرق البدع والضلالات، وكفى بالجائر أن يُحذَّر منه؛ فالسياق يدل على التحذير والنهي.
٣. وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٩]. قال ابن عطية: «هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد».
والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة أحوالهم كثيرة، فلنقتصر على ما ذكرنا؛ ففيه -إن شاء الله- الموعظة لمن اتعظ والشفاء لما في الصدور.
الوجه الثاني من النقل ما جاء في الأحاديث، وهي كثيرة تكاد تفوق الحصر، إلا أننا نذكر ما تيسر مما يدل على الباقي، فمن ذلك:
١. في «الصحيح» من حديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي ﷺ قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ»، وفي رواية لمسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد».
٢. وفي «الصحيح» من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا يَنْقُص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
٣. روى أبو داود والترمذي وصححه وغيرهما، عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله ﷺ ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذَرَفتْ منها العيون ووَجِلَتْ منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنّ هذه موعظة مودّع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّوَاجذ، وإياكم ومُحْدَثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».
٤. وفي «الصحيح» عن حذيفة أنه قال: يا رسول الله، هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم، قوم يستنون بغير سُنَّتي ويهتدون بغير هديي» قال: قلت: هل بعد ذلك الشر من شر؟ قال: «نعم، دُعاة على نار جهنم، من أجابهم قذفوه فيها». قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: «نعم، هم من جِلْدتنا ويتكلمون بألسنتنا». قلت: فماذا تأمرنا إن أدركت ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». قلت: فإن لم يكن إمام ولا جماعة؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»». هذا باختصار من كتاب «الاعتصام» للشاطبي.
ولا أراك الآن -يا عبد الله- إلا وقد حزمت أمرك -إن شاء الله- على ترك كل نوع من الابتداع، والحرص على أن تكون عبادتك وفق عبادة النبي ﷺ؛ فالخير كله في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه.
(١١-١٣)
أصلا العبادة()
ذكرنا في الحلقة السابقة أننا خُلِقنا لنعبد الله تعالى، ولكن لم نوضح كيف نعبد الله؟ أو بمعنى أدق: كيف يمكن التوصل إلى تحقيق رضا الله؟ إذ هو غاية العبادة، فهل يكون ذلك باجتهادنا البشري؟ الله الذي طلب منا عبادته حدَّد لنا الطريقة التي يريد أن نعبده.
لا يشك عاقل أن الإنسان باجتهاده البشري لن يتوصل لمعرفة مراد الله، ولا يستطيع الإنسان أن يعرف ماذا يحب الله وماذا يكره؛ لأن هذا منوط بمعرفة ذاته سبحانه، وهذا من المحال.
ولذلك فإن الذين اجتهدوا على مَرِّ الزمان لم يحالفهم الحظ في الوصول للغاية التي أرادوا، وهي مراد الله، فتنوعت وسائلهم وهاموا في الضلال، ولكن هل ترك الله الناس يتيهون بحثًا عن الطريق أم دلَّهم عليه؟
وحيث إن ربنا يتصف بالعدل والحكمة والعلم علمنا أنه لا يترك الناس هَمَلًا، وإنما دلَّهم على الطريق ورسمه لهم بعناية فائقة؛ حتى لا يكون لأحد حُجّة على الله بعد الرسل.
فأرسل الرسل تترى إلى كل قرية وأمة من الناس؛ يدلونهم على الله ويرشدونهم، فما من شيء إلا وعُبد من دون الله تعالى كالشجر والحيوان!
وجاءت الرسل لتقول للناس: «قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، فكان الجواب: ﴿أَجَعَلَ ٱلْآلِهَةَ إِلـٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥].
ودارتْ رحى الحرب بين الرسل والناس وكانوا فريقين: مؤيد، ومعارض معادٍ. ولسنا هنا بصدد بيان أنواع الشرك، وإنما نقول: إن الإنسان عندما يقرر التعبد بطريقته الخاصة؛ فإنه لن يصل إلى مراد الله تعالى وسيتخبط في متاهات الضلال، ولذلك فإن دعوة الرسل عندما جاءت للأمم فإنها جاءت لتعدل المسار الخطأ، وما حاربها من حاربها إلا من عميت بصيرته ولبس عليه، وكانت دعوة الرسل جميعًا: ﴿أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلـٰهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: ٣٢].
ونحن هنا نقرر قاعدتين أساسيتين تقوم عليهما العبادة، ويتوقف بُعد الإنسان عن الصواب وقربه منه بمقدار التزامه بهما أو بعده عنهما، وهما:
١. ألا تعبد إلا الله.
٢. ألا تعبد الله إلا بالشرع.
وهذا هو ما قرره علماء الشريعة من الأئمة رضوان الله عليهم، وتفصيل ذلك:
١. لا تعبد إلا الله:
عندما يقرر الإنسان أن يتجه لخالقه بالعبادة؛ فإنه -أحيانًا- يضل الطريق ويتيه في دنيا المعبودات الأخرى، والإنسانية تاهت قديمًا وحديثًا؛ فهناك عباد الله وعباد غيره.
أما عباد الله؛ فإن الرسل جاءت إليهم لترشد، فكما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُوا ٱلطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَالَةُ﴾ [النحل: ٣٦]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢].
ووصف الملائكة والأنبياء بذلك فقال: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩، ٢٠]، وقال تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: ٦].
فهؤلاء هم عباد الله، ويقول الله: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ ٱلدِّينَ﴾.
ويقول تعالى عن الذين ضلوا الطريق: ﴿يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا ٱسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: ١٣، ١٤].
وقال تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ﴾ [يونس: ١٠٦].
وقال تعالى: ﴿أَمِ ٱتَّخَذُوا مِنْ دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [الزمر: ٤٣].
والنصوص في هذا متضافرة، وكلها تدور حول إفراد الله تعالى بالعبادة، والأمر الجامع في هذا قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
(١٢-١٣)
أصلا العبادة()
ذكرنا في الحلقة السابقة أننا خُلقنا لنعبد الله تعالى، ولكن لم نوضح كيف نعبد الله؟ أو بمعنى أدق: كيف يمكن التوصل إلى تحقيق رضا الله؛ إذ هو غاية العبادة؟ هل يكون ذلك باجتهادنا البشري؟ الله الذي طلب منا عبادته حدَّد لنا الطريقة التي يريد أن نعبده.
وذكرنا أيضًا بعض الأدلة التي تدل على العبادة، وهي تقوم على أصلين وهما: ألا تعبد إلا الله، وألا تعبده إلا بما شرع، وسنستكمل في هذه الحلقة الأدلة التي تدل على هذين الأصلين:
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كنا نتناوب رسول الله ﷺ فنبيت عنده تكون له الحاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا، فكثر المحتسبون وأهل النُّوَب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله ﷺ فقال: «ما هذه النجوى؟ ألم أنهكم عن النجوى؟» قال: فقلنا: تُبنا إلى الله أيْ نبيَّ الله، إنما كنا في ذكر المسيح وفَرِقنا منه، فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟» قال: قلنا: بلى. قال: «الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل».
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ، يرويه عن ربه -عز وجل- أنه قال: «أنا خير الشركاء، فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري، فأنا منه بريء وهو للذي أشرك».
وعن أبي سعيد بن أبي فَضَالة الأنصاري -وكان من الصحابة- أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخِرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه؛ نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا؛ فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «تُعرَض أعمال بني آدم بين يدي الله -عز وجل- يوم القيامة في صُحُف مُخَتَّمة، فيقول الله: ألقوا هذا واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: يا رب! والله ما رأينا منه إلا خيرًا. فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي».
وقال جلَّ وعلا: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النساء: ١٢٥] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «أخلص العمل لربه عز وجل، فعمل إيمانًا واحتسابًا ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾؛ أي: اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل من دونهما؛ أي: أن يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون تبعًا للشريعة، فيصح ظاهره بالمتابعة وباطنه بالإخلاص، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمن فقد الإخلاص كان منافقًا وهم الذين يراءون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالًّا جاهلًا» ا. هـ.
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: «اللَّهُمَّ اجعل عملي كله صالحًا واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا».
والصحابة عامتهم كانوا يخافون من عدم الإخلاص، قال ابن أبي مُلَيكة: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل»().
قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٧-٦٠]، روى الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآية، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: «لا يا بنة الصديق، ولكنهم يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون ألّا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات» رواه أحمد والترمذي، وحسَّنه الألباني.
ومما يؤثر في الإخلاص -بل قد يذهب معه العمل-: الشركُ في العبادة، فإن هذا الشرك يصدر ممن يعتقد أنه لا إلٰه غيره ولا ربَّ سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه.
فــللّه من علمه وسعته وجهده نصيب، وللشيطان وللخلق نصيب، وهذه حال جمهرة من الناس.
فالله -جلَّ وعلا- كما أنه إلٰه واحد ولا إلٰه سواه؛ فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالإلٰهية يجب أن يُفرَد بالعبودية؛ فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسُّنَّة، وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل؛ فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به؛ فلا يصح ولا يقبل منه، ويقول تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري؛ فهو للذي أشرك به وأنا بريء منه» في السنن وهو صحيح.
والذي تقرر هنا أن إفراد الله وحده بالعبادة هو أساس الإسلام، وما سوى ذلك تبع له ولاحق، والذي لا يحقق هذا الأساس فإنما يبني دينه على أوهام.
أما ما الشرك وكيف يُتقى؛ فإن لهذا موضعًا آخر إن شاء الله، وإنما نحن نركز حول أن أول الأمر إفراد الرب وحده بالعبادة سبحانه، وهو معنى قولنا: «أشهد أن لا إلٰه إلا الله».
فالذي يشهد أن لا إلٰه إلا الله معناه: أنه يُقِرُّ بهذا، وأن جميع المعبودات سوى الله باطلة وضلال، وهذا القدر هو الذي نريد تقريره هنا بأن أي معبود سوى الله باطل وضلال؛ فاعرف هذا فإنه لك نافع.
فإذا تقرر هذا في الأذهان واستقر لذوي البصائر؛ بقي أن تعرف كيف تعبد الله، وهو لقاؤنا القادم إن شاء الله؛ لا نعبد الله إلا بما شرع.
(١٣-١٣)
ألا تعبد الله إلا بما شرع()
مضى القول -أيها الإخوة والأخوات الكرام- أن الله قد شرع لنا من الدين، ودلَّنا على الدرب الذي مَنْ سلكه نجا ولزم باب الجنة إن شاء الله.
وقد كمل الدين بقوله تعالى: ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] وكان من تمامه أن جعل درب الجنة هو في اتباعه ﷺ حيث قال: «كل الناس يدخلون الجنة إلا من أبى»، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» رواه البخاري.
ومنهج الرسول ﷺ هو الصراط والباب الذي يلج الجنة بواسطته؛ بل جعل اتباعه -صلوات الله وسلامه عليه- دليلًا عن حب العبد لربه سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١].
والعبد لا يستطيع التوصل لمعرفة مراد الله ولا معرفة ما يحبه ربه ولا ما يبغضه إلا بواسطة الرسول ﷺ، ولذلك قال جلَّ وعلا: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥]، فهذه الآية كما تلاحظ -أخي الكريم- أنها جعلت تحكيم الرسول ﷺ هو الإيمان، وأقسم ربنا على ذلك.
بل جعل سبحانه أن ذلك لا يتم حتى تطمئن نفس العبد لهذه الطاعة، ومعنى ذلك: أنه لا بد من طاعة الجوارح مع اطمئنان القلب لهذه الطاعة، وهذا من كمال المحبة له صلوات الله وسلامه عليه، كما جاء في حديث البخاري، قال عمر بن الخطاب: لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: «لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك». فقال له عمر: فإنك الآن أحب إليّ من نفسي. فقال: «الآن يا عمر»، فهذا هو تمام المتابعة له ﷺ.
بل إن الله سبحانه هدد من فضّل شيئًا من المال أو الأهل على حب الله ورسوله فقال: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٢٤]، والرسول ﷺ يقرر هذه الحقيقة بقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» رواه البخاري.
ويزيد هذه القضية بيانًا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: «وجماع الدين أصلان: ألّا يُعبد إلا الله، وألّا يُعْبَدَ إلا بما شرع، لا يعبد بالبدع كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إلٰه إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله؛ ففي الأولى ألّا نعبد إلا إياه، وفي الثانية أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه، فعلينا أن نصدّق خبره ونطيع أمره، وقد بيَّن لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة قال الله تعالى: ﴿َبَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ١١٢]، وكما أننا مأمورون ألّا نخاف إلا الله، ولا نتوكل إلا على الله، ولا نرغب إلا في الله، ولا نستعين إلا بالله، وألّا تكون عبادتنا إلا لله؛ فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى ٱللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ [التوبة: ٥٩]، فجعل الإيتاء لله والرسول، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]» ا. هـ.
وهذا -يا عبد الله- هو تمام معنى قولك: أشهد أن محمدًا رسول الله، فأنت تقرر في الشهادة أن لا إلٰه إلا الله، وتشهد أن محمدًا رسول الله؛ أي: إنك تحقق العبودية لله وعن طريق محمد رسول الله ﷺ.
فكل عبادة وقُرْبة لله لم تكن على هدي محمد ﷺ فهي مردودة على صاحبها؛ فاحذر ذلك هُديت للرشد، بل إن الله -جلَّ وعلا- هدّد من سلك غير سبيله بالويل، فقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾، فأنت -يا عبد الله- مأمورٌ بالسير على هدي محمد ﷺ وعلى فهم أصحابه رضوان الله عليهم، وعليك أن تأخذ جميع عباداتك عنه، فقال: «خذوا عني مناسككم» و«صلوا كما رأيتموني أصلي»، بل ذكر في الحديث الجامع: «ومن يرغب عن سُنَّتي فليس مني»، فالطريق إلى الجنة -وهو الصراط المستقيم- لا بد أن تسلكه متبعًا هدي النبي ﷺ.
ومن أجل ذلك كان التحذير الشديد من مخالفته ﷺ، فقال جلَّ وعلا: ﴿فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وجعل ربنا الحياة الحقيقية في الاستجابة لله وللرسول، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَٱعْلَمُوا أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٤].
وهكذا -أيها الإخوة الكرام- نكون قد بيَّنا الأصل الذي تقوم عليه العبادة في هاتين الحلقتين، وهما: ألا نعبد إلا الله، وألا نعبد الله إلا بما شرع، وإلى لقاء يتجدد نتابع فيه أمر العبودية لله ربِّ العالمين.
٭ ٭ ٭