[الحمد لله رب العالمين، والعاقبة لعباده الصالحين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد]:
العلم والجهل ضدان لا يجتمعان أبدًا، والعلم والعمل متلازمان أبدًا، ومن فصل بينهما فقد أضاع، وإنا أمةُ علمٍ أُريدَ لنا العمل به، ومَنْ بدّل فقد ضيَّع، وتنازع الناس العلم؛ فمن قائل: هو للدنيا، ومن قائل: هو للآخرة فقط.
وقد ذكر الله منزلة العلم وأهله، فقال: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلْمَلَائِكَةُ وَأُولُو ٱلْعِلْمِ قَائِمًا بِٱلْقِسْطِ لَا إِلـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨].
قال ابن القيم رحمه الله: «استشهد سبحانه بأولي العلم على أجلّ مشهود عليه وهو توحيده، وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه».
وقال أيضًا: «إن من ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول»، وساق رحمه الله أبحاثًا جيدة تراجع [مفتاح دار السعادة].
وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا ٱلْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٣]. وقال جل وعلا: ﴿يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١]. والآيات في المعنى كثيرة جدًّا يطول حصرها، فقد جاء ذكر العلم ومشتقاته في القرآن أكثر من مائتي مرة.
أما الأحاديث؛ فهي:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله ﷺ: «(من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نَفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» رواه مسلم وغيره.
قلت: فيه فوائد جَمَّة، منها:
١. أن طالب العلم يكون عابدًا لله، إن أخلص لله وحده وعمل بما علم.
٢. أن تدارس القرآن والعمل به ماحٍ للذنوب، وأجره عند الله عظيم.
٣. أن الله سبحانه لا يعامل الناس على أساس الأحساب والجمال، بل التقوى هي المعيار.
وهناك فوائد كثيرة فيه، تدبرها واسأل الله الفتح لك.
الثاني: قوله ﷺ: «من يُرِد الله به خيرًا يفقّهه في الدين» رواه البخاري ومسلم.
قلت: في هذا بيان لعمل عظيم، وهو أن الذي يفقه في دين الله قد أراد الله به خيرًا، وأن الذي جهل الدين حُرم هذا الخير، ولكن بشرط أن يكون الفقه مع العمل وإلا فلا خير.
الثالث: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم.
وهذا حديثٌ عظيم لمن تدبره، فهو يعطي طالب العلم منزلةً ما بعدها منزلة، وكفى به حافزًا لأن يتعلم المرء العلم؛ ليكون باقيًا أثره من أثر هذا العلم إلى يوم الدين.
ولن أكثر من إيراد النصوص، فيمكن أن ترجع إلى أي كتاب من كتب الفقه أو الحديث تجد [فيه] بابًا لفضيلة العلم.
وهذه نصوص من حياة السلف الصالح -رحمهم الله- تدبرها:
١. قال أبو الدرداء: «لئن أتعلم مسألة أحب إليّ من قيام ليلة».
٢. وقال: «كن عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا، ولا تكن الرابع فتهلك».
٣. وقال عمر: «موت ألف عابد قائم الليل، صائم النهار أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه».
(وأمور كثيرة انظرها في كتاب «بيان العلم وفضله» لابن عبد البر، فقد أوفى رحمه الله).
إن النصوص السابقة تفيد -وأخرى غيرها كثير- فضيلةَ العلم وطالبه.
وهنا يطرح سؤال، وهو: ما هو العلم الذي تحث عليه الآيات والأحاديث؟ أهو علم الدنيا، أم علم الدين؟
ولهذا جواب، وفيه بيان، (وهو محكُّ المسألة وسرُّها، حيث إنك كما تعلم -بصّرك الله بالحق وإياي- أن مدار الأمر كلِّه -سواء في العلم أو في غيره- إنما هو مراقبة الله سبحانه سرًّا وعلنًا، وأن يكون الحافز له إنما هو طلب الثواب من الله سبحانه وتعالى، فإذا تحقق هذا وتبلْور وضح لنا فهم المسألة، وهي أنه لا بد وأن يتحقق في العمل ما يلي:
١. أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾ [البينة: ٥].
٢. أن يكون كما أراد الله سبحانه، بمعنى أن يكون مشروعًا.
فإن توفر هذا، فهو عمل عليه أجر كبير من الله.
أما العلم؛ فهو أحيانًا يكون واجبًا تعلمه على جميع أفراد الأمة، وهو ما يُعَبِّر عنه العلماء بأنه فرض عين، وهذا يشمل أمور الدين الأساسية التي لا غنى لأحد عنها، والتي يكون الجهل بها مُنقصًا للعبادة الحقة، وأحيانًا يكون طلب العلم مباحًا، وهذا يدخل فيه التوسع في العلم ودراسة العلوم الأخرى.
لكن هناك حالات تجعل طلب العلم واجبًا، وهو ما يُعبَّر عنه بفروض الكفاية، وهو أنه إذا فعله فريق من الأمة سقط الإثم عن الجميع، وإن أهمله عمَّ الإثم.
وأعتقد أن تعلم الصناعات واجب فعله على الأمة، بل إني أجزم أن تخصيص فريق من الأمة لتعلم فرع من فروع العلم واجب كذلك، وإن الأمة إن لم تعمل بهذا فهي آثمة، ومن ذلك نخلص إلى ما يلي:
١. أن أي علم دينيًّا كان أو غيره يتساويان، إذا لم يُقصد بهما وجه الله تعالى.
٢. أن العلم الديني أفضل العلوم وأشرفها، وهو علم مخدوم، أي: إنه لا ينال به شرفًا ولا مالًا، وإنما ينال به أجرًا من الله سبحانه وتعالى، وناهيك بهذا فضلًا، [وجميع العلوم خادمة له]).
وليكن الختام هو نصوص تبيّن عذاب صنف من الناس، وهو مَن تعلم العلم الديني ولكن لم يعمل بهذا العلم، وإنما تعلم لغير الله وتعلم لمآرب أخرى وانخدع الناس به، وما أكثر ما ابتُلينا بهذا الصنف من الناس، طهر الله منهم مجتمع الإسلام وفضحهم على الملأ حتى يعلم الناس حقيقة الأمر ويعلموا أن دين الله منهم براء، ولن يتم هذا إلا بأن نتعلم العلم لنقوم ببيان دجلهم بالحجة والبرهان، والله المستعان الهادي.
١. قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢].
٢. وقال: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُوا ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: ٥].
فقد شبَّه الله الذي يحمل العلم ولا يعمل به كالحمار يحمل كتبًا، فكما أن الحمار مهما حُمِّل من كتب فإنه لا يستفيد منها؛ كذلك هؤلاء الظالمون الذين ظلموا أنفسهم لا يستفيدون من العلم، وكفى توبيخًا أنْ مُثّل بحمار، [والعياذ بالله].
وقال ﷺ: «أول الناس يُقضَى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد في سبيل الله، فأتى به ربه، فعرّفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت حتى قتلت، قال: كذبت، قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته، وقرأت القرآن، قال: كذبت، ولكن ليقال: قارئ، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل أوسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت بها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيها إلا أنفقت، قال: كذبت، ولكن ليقال: هو جواد، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» حديث صحيح رواه مسلم.
فهذا حال مَنْ لم يُرِدْ بعلمه ولا بعمله وجه الله تعالى، فاللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.
فقد جاء في حديث آخر: «يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك؟! ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
قال راوي الحديث: وإني سمعت رسول الله ﷺ قال: «مررت ليلة أُسري بي بأقوام تُقرَض شفاههم بمَقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون» رواه البخاري ومسلم.
فاللهم وفّقنا لأن نعلم ونعمل، فالعلم بدون عمل وبال على صاحبه.