الفكر الإسلامي بدعة محدثة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عندما شرعتُ في كتابة الرد على الأخ الأستاذ/ رمضان لاوند؛ كنت متوقعًا منه الرد، وهذه خَصْلة طيبة لا بد أن يسير عليها كلُّ فردٍ في الأمة المسلمة، وهي أن يناقش حتى يصل للحق، وذلك أن الحق كثيرًا ما يتبلور في المناقشة أو المعارضة، والنقد كثيرًا ما يكون من الدواعي المهمة في إقامة الدليل على صدق الأمر أو كذبه.

وقبل مناقشة المقال تفصيلًا أحب بيان:

١. أن الأخ/ رمضان لم يتطرق لمناقشة المقال علميًّا من حيث مدلول الكلمة.

٢. أنه في بعض الفقرات حمَّلني أمورًا لم أقلْها، بل قد حذّرت منها كما سيأتي بيانها.

ونعود الآن لمناقشة المقال، يقول الأخ بعد أن ذكر الآية: «والتأمل هو إعمال العقل لاستيعاب فكرة أو أفكار معينة، ولما كان موضوع التدبر والتأمل العاقل هو القرآن الكريم».

ليسمح لي الأخ/ رمضان بالبيان: إن التأمل والتدبر ليس لاستيعاب فكرة معينة فحسب، بل وليس التأمل العاقل هو القرآن الكريم، بل إن هناك أمورًا يجب التدبر فيها، وهي حقائق وليست فكرًا، ألم يأمرنا الله سبحانه بالتدبر في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الشمس؟ وهذه حقائق وليست أفكارًا.

فهل التدبر في هذه وهي غير القرآن تدبر غير عاقل؟ وكيف يكون هذا والحق سبحانه أمرنا بهذا التدبر بقوله جل وعلا: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَافِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ﴾ الآية [البقرة: ١٦٤]؟، فحصرُ التأملِ في استيعاب فكرة معينة لا نوافق الأخ/ رمضان عليه، والذي نقرره في التأمل أنه عام شامل الفكر والحقيقة؛ فنحن مطالبون بالتدبر في الأفكار المحدثة وكذلك مطالبون في الحقائق الثابتة.

ثم تساءل الأخ/ رمضان بقوله: «ماذا عسايَ أُسمي مجموعة الحقائق التي وردت في كتاب الله تعالى»، وأقول للأخ: سمّها قرآنًا كما سماها الحق سبحانه وتعالى، إن الله سبحانه سمى مجموعة الأمور والحوادث الموجودة في المصحف قرآنًا، وهذا هو الاسم الحق ولا اسم سواه.

ولا بد لي هنا من توضيح الآتي:

١. عبر الأستاذ عن القرآن بالفكر، ثم أخبر أنه يحوي مجموعة من الحقائق، ويطرح نفسه سؤالًا هنا، وهو: أليس هناك ثمة فارق بين الفكر والحقيقة؟ هل مثلًا الماء يتركب من هيدروجين وأكسجين بنسب معلومة؛ هذه أفكار أم حقائق علمية ثابتة؟ ولا أعتقد أن أحدًا من علماء الكيمياء يوافق على اعتبار أن هذا فكرٌ.

٢. يبدو لي أن الأخ/ رمضان يقصد أن القرآن هو اسم على المجموع فقط دون الأجزاء إذا انفردت، وهذا -في اعتقادي- خطأ، فكلمة «القرآن» تعني أن كل جملة في المصحف هي قرآن، وعلى ذلك فقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: ١] هذا ينطبق عليه التعريف للقرآن ويكمن فيه التحدي.

وقد وقع الأخ/ رمضان في منزلق، حيث قال عقيب قوله السابق: «أو آراء نتدبرها ونحاول…»، وهذا يدلنا على أن الأخ/ رمضان يرى أن في القرآن آراء، فهل يعتقد أن الرأي والحقيقة هما شيء واحد؟ وهل الرأي يعني أنه حقيقة ثابتة أو قانون ثابت، مع أن الجميع يعلم أن الرأي لا يعدو كونه نظرية افتراضية يحق لأي فرد أن يطعن فيه، وأن يبرهن على صدقه وكذبه؟ فهل القرآن يمكن أن ينظر في صدقه أو كذبه، أو يبرهن على بطلانه؟ حاشَ لكتاب الله أن يكون كذلك.

وتساءل الأخ/ رمضان عن الاسم الذي يمكن أن يطلق على مجموعة الكتابات الإسلامية التي كتبها المفكرون الإسلاميون، وأقول: سمِّها كما سموها أخي! وسمّها إذا شئت تفكيرًا إسلاميًّا؛ إذ إن التفكير الإسلامي يعني أن المسلمين يفكرن في حدود الإسلام ولا يعني أن الإسلام فكر.

وإني أستطيع الجزم بأنه لم تصدر من أحد من علماء السلف كلمة «الفكر الإسلامي» مطلقًا، فهم ناقشوا الدين على أنه حقائق وقوانين وعلوم، ولم يقل أحد منهم: إن القرآن أو السنة فكر أو رأي؛ بل إننا نرى أن هذا القول مبتدع.

وإني أكرر ما قلته آنفًا من أني لم أنْفِ عن المسلمين التفكير أو التدبر، بل قلت وأقول: إنهم مأمورون بهذا، ولكن الذي أنفيه أن يكون القرآن أو السنة فكرًا، وشتان بين ما أنفيه وأثبته.

ثم بعد هذا أخبر الأخ/ رمضان أني مضطر لاستخدام ما استخدم هو من عبارات، وأقول: إن في الأمر سعة والحمد لله من أن أُضْطَر لاستعمال ما لم يقم دليل عليه.

وبعد ذلك قال الأخ/ رمضان: «ماذا عساه» يقصدني «يسمي عملية استيعاب المعنى الذي يحصل الإنسان عليه دون إعمال عقله، بل يأتيه تعليمًا من أستاذ أو من السماء؟».

أعتقد أني يحق لي أن أشارك الإخوة القراء بهذا السؤال، وأترك لكل منهم أن يجاوب نفسه، هل هناك أحد يستطيع أن يستوعب أمرًا دون إعمال العقل؟

إني أقر -بفهمي القاصر- لم أستطع استيعاب هذا الأمر إلا إذا كان الأخ/ رمضان يقصد بالاستيعاب الحفظ، إذ إنه يمكن أن يحفظ أحد كلمة دون استيعاب معناها، ولكن أن يستوعب شيئًا دون إعمال عقله؛ هذا لا يمكن حتى ولو بالحفظ، فحتى تحفظ شيئًا يلزمك إعمال العقل حتى تستطيع أن تتأكد من صحته عند روايته، وإني منتظر أخي الكريم أن يبين لي كيف يمكن استيعاب المعنى دون إعمال العقل.

أمّا ما قاله عن العبقرية؛ فإني شاكر للأخ لفت نظري حول الرسول ﷺ، وأنه ليس وعاء مصمتًا لا يتفاعل مع الأحداث، بل هو يشعر ويفكر ويتدبر، وإني أرجو أن يسمح لي الأخ بأن أذكره بأني قد قلت بالحرف في مقالي: «فمحمد ﷺ ليس عبقريًّا ولا مفكرًا كما هو معروف، وإننا لا ننفي عنه التفكير والتدبر، بل ننفي عنه إطلاق اسم المفكِّر عليه؛ لأن الدين ليس من تفكيره، بل من عند الحق سبحانه».

أظن أن كلامي هذا واضح، وإني -والحمد لله- لم يَغِبْ عن بالي هذا، ولا أظن أن أستطيع تجريد خير الخلق من صفة كهذه، وعلى ذلك فما كتبه الأخ حول هذا لا شأن لي به، إذ إني لم أعْنِهِ ولم أقله.

وجاء في تعريف رمضان للعبقرية قضية أجد نفسي مضطرًّا للوقوف عندها، إذ قال: «فالمقصود من العبقرية أنها تعبير عن الفكر الأصيل المدهش الذي يفرض نفسه باعتباره الحق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه».

لقد أبعد أخونا الفاضل في هذا التعريف؛ إذ إن تعريفه للعبقرية لا ينطبق إلا على العبقرية غير الموجودة، فالعبقرية التي يعرفها الجميع من مدلول الكلمة لا يمكن أن تكون كلها حقًّا، بل هي عبارة عن فكر وفلسفة وسمو، وهل معنى ذلك أن كلام أرسطو وسقراط وطاغور لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهم عباقرة؟!

إننا -بعلمنا القاصر- تعلّمنا أن الذي لا يأتيه الباطل هو القرآن الكريم، تنزيل العزيز الحميد، أما كلام الناس وفكرهم ففيه الباطل والحق.

وقال الأخ/ رمضان: «لماذا يصر على اعتبار العبقرية آية على الإبداع الشخصي عند إنسان لا دين له؟ ومن هو الذي ربط العبقرية بموقف المحلل من الدين؟».

والحق أن هذا القول أبهرني جدًّا، وعجبت له كثيرًا؛ إذ إني لم أقله فضلًا عن الإصرار عليه، وإني أرجو من الأخ أن يدلني على العبارة التي فهم منها هذا القول.

أما من ربطها بالمحلل من الدين؛ فهذا أتركه لأخي نفسه أن يرد على سؤاله، أما أنا فكل الذي أقوله بأنني لم أقل مثل هذا القول، وعلى ذلك فلا يلزمني منه شيء.

وبعد.. فهذه عجالة رأيت نفسي ملزمًا بتدوينها إحقاقًا للحق، وأرجو من الأخ/ رمضان أن يعيد دراسة هذه القضية التي نعتقد أهميتها ويعيد النظر فيما قال، وأذكر نفسي وإياه بأن الخير كله يكمن في الوقوف عند الحق، وأذكره كذلك بأن هذا القول -وهو أن في القرآن أفكارًا وآراء- قولٌ لم يقلْه أحد من المسلمين -حسب علمي- قبله.

وإني فيما كتبت لا أقصده شخصيًّا؛ فهو أخ لي في الإسلام، ومن واجبات الأخوة النصح، وأسأل الحق سبحانه أن يلهمنا السداد، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *