فقد تكلم الناس عن الصدق والكذب وكتبوا فيهما، فما الصدق وما الكذب؟ الصدق قول الحق والكذب خلافه، فالصدق ظاهرة تعني وجود الثقة في الأمة والكذب دالٌّ على خلافه، ومن أول مظاهر التدني والانحدار في الأمة انتشار ظاهرة الكذب واختفاء ظاهرة الصدق، والإسلام كدين أنزله الله -سبحانه وتعالى- ليكون في التمسك به والعمل بأحكامه سعادة الدنيا وعمارتها، وكذلك الآخرة.
وقِفْ من هذه الظاهرة -أي: الكذب- موقفًا فاصلًا، إذ اعتبر أن من تحلَّى بهذه الخصلة ليس مسلمًا كاملًا؛ إذ المسلم كما عرَّفه الرسول ﷺ بأنه من سلم المسلمون من لسانه ويده، والكاذب لم يسلم المسلمون من لسانه، ولذلك جعله الرسول ﷺ من زمرة المنافقين؛ لأنهم يقولون ما لا يبطنون، فنص بحديث البخاري: «أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر».
فما من شر إلا والكذب مصدره ومعين عليه، ولذلك جعله الرسول ﷺ هاديًا إلى الفجور، ففي الحديث الصحيح الذي قال فيه: «إياك والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا».
ومن هذا الحديث نستطيع أن نفهم:
١. أن الكذب هادٍ إلى الفجور، وهو أول خطوات النار -أعاذنا الله منها.
٢. أن الرجل عندما يكذب مرة وأخرى؛ فإنه يستمرئ الكذب ويصبح عادةً له ودَيْدنًا.
٣. أنه يصبح بعد ذلك صفة لازمة لا تنفك عنه، وعند ذلك يفقد الشخص وضعه في المجتمع السليم، وعندما يكثر هذا الصنف تنعدم الثقة وهي أساس البناء، فيتفكك المجتمع ويزول.
وقد تعتريك الدهشة عندما تبحث حولك وتجد تفشي الكذب، ولا تسير الأمور إلا به؛ بل أصبح الكذب فيه أسود وأبيض، ونافع وضار، وكذب رسمي من الحكام، وآخر من الدعاة ولمصلحة الدعوة!!
وقد تزلّ قدمُ الرجل الصالح عندما يرى بعض أدعياء الإسلام يكذبون وآخرين غيرهم، فاحذر أن تكون كذلك، فلا يغرنك كثرة الكاذبين، فإن أهل الحق دائمًا قِلَّة، فاعتصم بحبل الله.
ومما عمَّت به البلوى أنْ تَفَشّى بين المسلمين نوع من الكذب أخطره وأشده فتكًا، وهو الكذب على الله ورسوله؛ لقد نشأ بين المسلمين أقوام من المتصوفة والوعاظ المنحرفين الدجالين أرادوا أكل أموال الناس بالباطل، فقاموا بوضع أحاديث على الرسول ﷺ؛ وذلك -بزعمهم الباطل- ليحببوا الناس في الدين، ولقد شاهدنا كثيرًا ممن يتسمون بـ«الشيخ» يقف في المسجد واعظًا ناهيًا عن الكذب ومحذرًا الناس منه، وهو أثناء نهيه يكذب الحديث تلو الآخر، وإلى هؤلاء نسوق قوله ﷺ: «منْ كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وقوله: «من حدّث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
وكل بَليَّة جاءت على المسلمين أصلها الكذب، ولقد دخلت الأحاديث المكذوبة والضعيفة في كتب الفقهاء، والتخلص منها وإظهار السليم إلى الناس عبء على الأمة وواجب.
والأخبار -سواء منها ما كان عن الرسول ﷺ أو عن غيره- احتمال تطرق الكذب إليها وارد، ولذلك يقول ابن خلدون رحمه الله: «والكذب متطرق للخبر بطبيعته، وله أسباب تقتضيه، ومن هذه الأسباب التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نِحْلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله.
ومن الأسباب المقتضية للكذب الثقةُ بالناقلين، ومنها: توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين».
وكثير من الناس لا يتصور أن يقدم الرجل الثقة بزعمهم على الكذب، وكم كذب ممن تظنهم الناس ثقات! والذي أوقع الناس في هذا أن التوثيق أصبح الآن لا يُعتد به، وذلك أن كثيرًا من الموثقين لا يعرفون من يوثقون إلا لمجرد لقاء عابر، فتجده يكيل له الثناء والتوثيق، ومن هنا فلا بد من التدقيق في التوثيق، فليس كل موثق يُقبَل توثيقه، وهذه قاعدة ثابتة عند أهل الحديث.
وعلى المسلم أن يعلم أنه يحرم عليه نقل أي خبر إلا بعد التأكد منه والتدقيق فيه، وإلا آل عليه إثمه وتحمل مسئوليته، وبذلك يقول الرسول ﷺ: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع».
فاحفظ هذا فإنه لك نافع؛ فقد تقع في غيبة إنسان والكذب عليه دون علم، واعلم -رحمنا الله وإياك- أن نقلك للخبر الذي يوافق هواك قد يكون كذبًا، وتذكر قوله ﷺ: «هل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»، وتذكر قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾.
وفي هذا لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.