إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد:
كثيرًا ما ألتقي ببعض الذين يودون تلاوة كتاب الله جل وعلا، ويعيشون ساعات معه، وكانت شكوى هؤلاء أن هناك عائقًا يحول دون هذه الغاية الطيبة، فيسبب ذلك حرمانًا لهم من أجر كبير.
هذه الشكوى من الإخوة جعلتني أظن أن المانع أمر صحي، ولكن دُهشت كثيرًا عندما علمت أن المانع والحائل إنما هو فتاوى البعض من أن مسَّ المصحف حرام لغير المتوضئ، والحل الطبيعي لهذه المشكلة -كما نفهم- هو دراستها وسَبْر غَوْرها، وهذا ما سنُقدِم عليه ونسجله هنا ليطلع عليه الجميع، وليدلي أهل العلم والفضل بما لديهم حتى يظهر الحق.
أدلة المحرّمين:
وهذه أدلة المحرّمين نأتي لطرقها كما أوردوها، ونناقشها دون تحيز لهوى أو رأي، فبعد تتبع لأدلة القائلين بالحرمة وجدتُ أنها تنحصر في آية الواقعة وحديث واحد.
أما الآية؛ فهي قول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا ٱلْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩]، والحديث هو: «لا يمسّ القرآن إلا طاهر»، هذا الحديث جاء بروايات عن عمرو بن حزم وحكيم بن حزام وعبد الله بن عمر.
هذه هي الأدلة ولم أجد في كتبهم غيرها، والقائلون بالحرمة من الفقهاء كما قال القرطبي في «تفسيره» (١٧/ ٢٢٦): «واختلف العلماء في مسِّ المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسِّه لحديث عمرو بن حزم، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم: مالك والشافعي، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة».
مناقشة الأدلة:
بعد أن علمت الأدلة والقائلين بقي عليك أن تعرف هل هذه الأدلة كافية لهذا الحكم؟ وما هو وجه الاعتراض؟ وهذا ما سنفعله في مناقشتنا للأدلة، فنقول وبالله الاستعانة وحده:
أما قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا ٱلْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩]؛ قال البعض: إن المقصود بالمطهرين الناس، ولكن أكثر العلماء على أن المقصود بالمطهرين الملائكة، وانظر لذلك التفاسير، إلا أن ابن جرير الطبري يرى أنه يشمل الجميع، وهذا ما قاله: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله -جل ثناؤه- أخبر أنه لا يمسُّ الكتاب إلا المطهرون، فعمَّ بخبره المطهرين ولم يخصص بعضًا دون بعض، قال: فالملائكة من المطهرين، والرسل والأنبياء من المطهرين، قال: وكل من كان مطهرًا من الذنوب فهو ممن استثني وعني بقوله: ﴿ٱلْمُطَهَّرُونَ﴾».
وخلاصة القول في الآية: أنها لا تدل على ما ذهبوا إليه؛ وذلك لأنها تختص بالملائكة، وعلى فرض أن الطاهر لفظ عام -كما ذهب إليه ابن جرير رحمه الله- فنقول: إن المسلم طاهر كما سنقرره فيما بعد، وعلى ذلك فالآية لا تمنعه؛ لأنها تمنع غير الطاهر وهو طاهر، فهي له مبيحة.
الدليل الثاني:
حديث عمرو بن حزم وحكيم بن حزام، قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (١/ ٢٤٣)، «وقد ضعّف النووي وابن كثير في «إرشاده» وابن حزم حديث حكيم بن حزام وعمرو بن حزم جميعًا».
وقال الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام» ص١٨: «رواه مالك مرسلًا، ووصله النسائي وابن حبان، وهو معلول»، ووافق صاحب «سبل السلام» الحافظ في ذلك.
أما حديث ابن عمر؛ ففيه كلام أيضًا، انظر لذلك «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٢٤٣).
وجملة القول: أن الحديثين لا ينهضان للاحتجاج؛ لضعفهما كما بيّنا.
ولكن قد يقول قائل: إن لهما طرقًا تفيد أن لهما أصلًا، أو أنهما يرتقيان لدرجة الحسن، وليس هنا مجالُ مناقشةِ تعددِ الطرق للحديث الواحد وترقيته وشروط ذلك، ولنفرض أن الحديث -كما يقول- ثابت؛ فهل فيه دلالة على ما ذهبوا إليه من حرمة المس؟
الحديث يقول: «لا يمس القرآن إلا طاهر»، و«طاهر» لفظ عام، فعلى أي معنى نحمله؟ وإليك كلام الصنعاني صاحب «سبل السلام» (٦/ ٧١): «ولكنه يبقى النظر في المراد من «الطاهر»، فإنه لفظ مشترك يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولا بد من حمله على معين من قرينة».
ونحن نسأل: هل المسلم -حال كونه محدثًا حدثًا أصغر أو جنبًا- نجس أو طاهر؟
فإن كان طاهرًا؛ فالحديث يفيد أنه يحق له مس المصحف، وإن كان نجسًا فيفيد منعه، فإذا تحدد أحد هذين المعنيين استطعنا أن نحدد المقصود بالطاهر في الحديث.
أما أن المسلم نجس فهذا مستبعد؛ لحديث أبي هريرة الذي يرويه البخاري: أن النبي ﷺ لقيه في بعض طريق المدينة وهو جُنُب، فانخنس منه، فذهب فاغتسل، ثم جاء فقال: «أين كنت يا أبا هريرة؟»، قال: كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: «سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس»، فهذا نص على أن المؤمن لا ينجس إذا كان جنبًا، فلا بد وأن يكون طاهرًا، إذ لا وسط.
ومن هنا نستطيع القول: إن المقصود بالطاهر في الحديث المسلم، وغير الطاهر هو غير المسلم، فإذا تبين لك هذا ووضح؛ فاعلم أن الآية -على رأيهم- والحديث إنما هو رخصة للمسلم أن يمس المصحف على أي حالة كان؛ إذ إن الحديث يفيد ألّا يمس المصحف إلا طاهر، والمسلم -كما عرفت- طاهر، فإذًا يحق له مس المصحف.
إنك -أخي- إذا استطعت أن تفهم هذا وتدرسه وتعيد التفكير في هذه المسألة دون تحيز لهوى أو رأي؛ فإنك -إن شاء الله- مهتدٍ للحق ومتبعٌ للصواب.
ونستطيع أن نقرر -بعد الذي سبق- أن مس المصحف لغير المتوضئ جائز، ولا دليل على منعه، وكذلك قراءة القرآن، وإني لأعجب كيف يفتي الناس أن مسَّ المصحف يشترط فيه الوضوء، وهم يجيزون قراءة القرآن لغير المتوضئ من حفظه؟! أحب أن يجاوب هؤلاء الإخوة الذين يفتون الناس على هذا السؤال: هل من منطق ديننا أن الأمر الذي لا أجر فيه -وهو مس المصحف- تشترط الطهارة له، والذي فيه أجر -وهو القراءة- لا تشترط الطهارة له؟
إني أقول: إن هذا منطق بعيد كل البعد عن الصواب، والذين أجازوا المسَّ من العلماء والصحابة هم كما قال القرطبي في «التفسير» (١٧/ ٢٢٦): «وقد روي هذا [أي: الجواز] عن جماعة من السلف، منهم: ابن عباس والشعبي وغيرهما».
قال الشوكاني في «النَّيْل» (١/ ٢٤٥): «أما المُحْدِث حدثًا أصغر، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف».
وإني أرجو أن يفهم الإخوة أن الفتوى إخبار بحكم الله، وأن هذا لا يكفي فيه أن نقول: قال فلان من الناس أو العالم الفلاني وكفى؛ فإن هذا لا يلقي المسئولية عن الشخص الذي أقام من نفسه مفتيًا للناس.
وخلاصة ما يمكن قوله: إنه لا دليل صريح يمنع المسلم من مس المصحف، وقد بان لك وجه الحق والدليل، وأينما مال فدون تعصب لهوى أو مذهب.
وإني أكرر القول: إن الحق ليس بأن فلانًا من الناس قاله، وإنما يكون الحق لأن الدليل معه.
وهذا ما توفر لي حول هذه المسألة، وإني أسأل الحق سبحانه أن يُلهمنا السداد، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.