غاية العبادة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد:

فقد أرسل الله سبحانه الرسل جميعًا ليعلموا الناس عبادته وحده سبحانه والتحذير من الإشراك به، ومسألة تصحيح العقيدة وبنائها البناء السليم من أهم واجبات الدعاة اليوم، ولن يصلح حال الأمة -مهما كثرت جوانب العبادة فيها- ما لم تكن قد أصلحت اعتقادها بالله عز وجل.

ومن قضايا العقيدة التي حرّفها الناس وشوّهوا معناها قضية العبادة، أيُعبد الله خوفًا وطمعًا وحبًّا؟ أم نعبده هكذا لا خوفًا من ناره ولا رجاءَ جنته؟ وبلغ الأمر بهم أن جعلوا الساعي للجنة تاجرًا حقيرًا والهارب من النار عبدًا ذليلًا، وضربوا عرض الحائط بحديث الرسول ﷺ: «عجبًا للجنة كيف نام طالبها، وعجبًا للنار كيف نام هاربها؟!».

فنصيحة للمقبلين على الإسلام وحتى لا تخدعهم العبارات الفارغة، إذ إن دعاة هذا القول ينسبون باطلهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو منهم ومما قالوه بريء، فحتى يظهر الحق ويعتقد الناشئة العقيدة السليمة نبين أمر هذه المسألة، وقبل ذلك نودُّ توضيح الآتي:

١. أرشدنا الله سبحانه عند الاختلاف في قضية من القضايا بالرجوع إلى كتابه وسنة نبيه ﷺ، وليس إرجاعها لأقوال الرجال.

٢. إن مسائل العقيدة تثبت بالنصوص، ولا تثبت بأقوال الرجال.

ونسوق الآن القضية، وهي: هل المسلم يعبد الله هكذا؟ أم أنه يعبده حبًّا له ورجاءً بما عنده، وخوفًا من ناره؟

فأقول: من المعلوم والمتفق عليه بين جميع عقلاء المسلمين، والذي أمر الله به أن الخلاف إذا وقع فإنه يلزم الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولما كانت هذه القضية من أخطر قضايا الاعتقاد؛ فلا شك أن الله سبحانه قد فصّلها خير تفصيل في كتابه، وأن الرسول ﷺ بيّنها خير بيان؛ حيث إن مهمته الأولى ﷺ تعليمنا: ألّا نعبد إلا الله وحده، وألّا نعبده إلا بما شرع.

فتعالَ معنا -أخي المسلم- لنقرأ الآيات من كتاب رب العالمين، وهي تَصفُ حال أولياء الله، قال تعالى بعد أن ذكر حال الأنبياء والرسل وأنه أنعم عليهم واستجاب لهم؛ قال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] من عذابه، وهذا أيضًا حال عباد الرحمن، اقرأ كيف أن الله سبحانه أثنى عليهم بأحسن أعمالهم، ومنها استعاذتهم به من النار: ﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَنِ﴾ الآية [الفرقان: ٦٣] إلى أن قال: ﴿وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ [الفرقان: ٦٥، ٦٦].

وقد أخبر تعالى في آية أخرى أن عباده المؤمنين يتوسلون إليه بإيمانهم به سبحانه أن يقيهم عذاب النار: ﴿ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [آل عمران: ١٦]، وهناك أيضًا ما قاله الحق -تبارك وتعالى- عن عباده الصالحين، ووصف حالهم بقوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ﴾، ثم قال سبحانه: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: ١٩٤]، ثم بين أنه استجاب لهم سبحانه، ومعلومٌ أن الموعود على ألسنة الرسل إنما هو الجنة.

تلك هي الآيات، وهي قليل من كثير، وليس هناك آيةٌ في كتاب الله تقول: إن العبادة ليست للجنة ولا للنار، بمعنى أن العبادة هكذا بلا معنى ولا هدف، بل كلها تشير إلى أن العبادة الحق هي التي يتوفر فيها حب لله وخوف منه ورجاء بما عنده، فإذا نقص شيءٌ من هذا فهي عبادة مردودة، فالذي يقول: إني أعبد الله لا خوفًا منه ولا رجاء عنده؛ فهو مخالف لصريح القرآن ومبتدع في الدين.

ونقول لِمُرَوِّجي هذه البدعة، والمُدّعين أنهم أحسن عبادة لله من رسله: ألديكم تعليل يوضح لنا السبب الذي من أجله ذكر الله سبحانه الجنة وما فيها من نعيم بآيات واضحة، وأكثر منها حتى لا تكاد تخلو منها آية، وكذلك الأمر بالنسبة للنار؛ أقول لهؤلاء: ألديكم تعليل لذلك؟ أم أنكم ستقولون كما قال الذين من قبلكم: إنها أمور وهمية، القصد منها تربية العامة؟!

وإذا كان الأمر كما تقولون؛ أليس الأولى أن تكون آيات القرآن داعيةً لهذا الأمر الذي تزعمون؟!

وأحب لمن خُدع لهذه المقالة ومروجيها أن يسأل نفسه: لماذا قال الله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ ٱلسَّلَامِ﴾ [يونس: ٢٥]؟، أليس في هذا حثٌّ من الله لنا لإجابة الدعوة؛ اللهم إنا نؤمن بجنتك ونارك، فقنا عذاب نارك وأدخلنا جنتك؟!

وانظر -أيها العبد الصالح- أحوال عباد الله الصالحين، قال الله عنهم: ﴿قُلِ ٱدْعُوا ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: ٥٦، ٥٧].

فتأمل -رحمك الله- بين هذا الثناء من الله عليهم؛ لأنهم جمعوا بين الحب والخوف والرجاء، وبين من قال: لا أخاف ولا أرجو، سبحانك هذا بهتان عظيم!

وقارن قولهم بهذا الدعاء للرسول ﷺ: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».

وقارن -أيها المنصف- بين أحوال الأنبياء وبين أحوال أصحاب الوجد والهيام ووصفهم لاتجاههم هذا بأنه الحب الواجب! وكذلك ما نسبوه زورًا وبهتانًا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بتقسيم العبادة إلى عبادة الأحرار التجار والعبيد، فكل هذا مخالف للحق. 

وإنما روَّج المبتدعة ليُبعدوا الناس عن الطريق والجادة المستقيمة، وذلك أن الناس إذا لم يخافوا من النار فإنهم لن يرتدعوا عن المعصية، وإذا لم يرجوا الجنة فلن يعملوا صالحًا، وعند ذلك تكثر الرذيلة، وتقل الفضيلة، ويترك العمل بالدين، وراجع -لمعرفة أحوالهم- «طبقات الشعراني» تجد عجبًا.

وكنا نظن أن هذه الأفكار والانحرافات لن تنطلي على الشباب، ولكن -للأسف الشديد- رأينا بعض الشباب في أمريكا من العاملين للإسلام، المندفعين لذلك ذكروا في نشرة دورية يصدرونها هذا الموضوع تحت عنوان «الحب الواجب»، وسبب انجراف الشباب لمثل هذه النزعة هو مطالعتهم الكتب التي حَوَت الغثّ والسمين، وقلة بضاعتهم في الشريعة والعقيدة الصحيحة جعلتهم لا يميزون؛ الأمر الذي يجعلنا نكرر القول: إن واجب المربّين تحذير الشباب من الكتب الخليطة، وتعريفهم على الكتب النقية، والله غالب على أمره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *