مجلة ((الفرقان))، العدد (61)، تاريخ 1/5/1995م.
الحمد لله مالك الملك، وخالق الخلق، ميز الإنسان بعقله، وهداه للحق، وبصره بالصراط المستقيم، والصلاة والسلام على رسوله المختار، وصحبه الأبرار، الذين حملوا الراية، وكانوا على المحجة البيضاء، وجاهدوا في الله حق جهاده، ثم خلف من بعهدهم خلف كانوا فريقين: فريق هداية سار على دربهم وأخذ بهديهم، واقتفى آثارهم، وهم السلفيون عبر جميع الأزمنة، وفي كل الأمكنة.
وآخرون هجروا السنة، ولزموا البدعة، وفرقوا الأمة إلى شيع وأحزاب ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾، وإغراقاً في الجهل والتأخر قالوا بإغلاق باب الاجتهاد والتعصب لأئمة معينين، وحجروا الواسع، فجرَّ ذلك على الأمة من الفُرقة والتناحر والحرب والإيذاء.
وكل دارس لفترة التخلف التي أصابت الأمة وناظرٍ في الكتب التي أُلّفتْ يألمُ لما وصلت إليه الحالة العلمية والسلوكية، وكل ذلك مخالف للإسلام الصحيح، فإن الدارس للإسلام الصحيح وهدي السلف ـ رضوان الله عليهم ـ يتبين تلك الأخلاق العظيمة في التعامل مع البعض، وذلكم الرقي في السلوك، وتلك النظرة الراقية السامية في التعامل مع المخالف من العلماء، مما عده كثير من الدارسين ـ حتى الغربيين ـ مفخرة للحضارة الإسلامية، ودليل صدق ورقي للأمة، وفي عصرنا الحاضر نرى إقبال الشباب وطلاب العلم على الأخذ بالكتاب والسنة ومنهاج السلف واحترام العلماء قاطبة دون تعصب لأحد ولا تمييز، وقد تربى الشباب السلفي وقاد الأمة للتخلص من هذه العصبية القاتلة المقيتة.
والناس في موقفهم من العلماء على إفراط وتفري:
أولاً: فقوم رأوا أن العلماء كسائر الناس، ليس لهم في الشريعة اعتبار يعلي قدرهم، فلم يرفعوا بالعلماء رأساً، بل أساؤوا الأدب، وتطاولوا على أهل الفضل والعلم.
ومما يؤسف له أن بعض الدعاة والمفكرين هوّن من شأن أهل العلم مما جسر السفهاء من الناشئة على الطعن فيهم، وهؤلاء لهم سلف وهم الخوارج وأهل الأهواء، فمن علاماتهم الوقيعة في العلماء.
ثانياً: وآخرون عظموا العلماء، ومنعوا نقدهم، ودعوا إلى تقليدهم، حتى رد بقولهم حديث المصطفى ﷺ.
وكل من هؤلاء قد أخطأ الدرب وما فيه الصواب، ونحن نُجِلُّ العلماء ونقدرهم ونحفظ حقهم، ((وليس معنى موالاة العلماء أن يجعل العالم مناط الموالاة والمعاداة، فينتصر الطالب لشيخه، ويتعصب لأقوالهم وآرائه، ويجعلها هي الحق، فيوالي على أساسها، ويعادي من عاداها، فإن هذا لا يكون لأحد بعد الرسول ﷺ)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((ومن نصب شخصاً كائناً مَن كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل؛ فهو ﴿من الذين فرقو دينهم وكانو شيعاً﴾.
وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ؛ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار، فيوالي من وافقهم، ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يعوّد نفسه التفقه الباطن في قلبه، والعمل به، فهذا زاجر.
وكمائن القلوب تظهر عند المحن؛ وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها، بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله، أو أخبر الله به ورسوله؛ لكون ذلك طاعة لله ورسوله))( ).
بل وليس للمسلم أن يخصَّ أحداً من العلماء بمزيد موالاة إلا بحسب إيمانه وتقواه وعلمه، أو لأجل ما أسدى إليه من معروف، مثل: تعليمه أو توجيهه أو نحو ذلك( ).
والسلفيون ـ في تحذيرهم من التعصب ـ متبعون لأئمة الهدى ـ رضوان الله عليهم ـ، إذ يقولون كما أورد ذلك وفصَّله العلامةُ المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتاب النافع والواجب على كل مسلم يريد معرفة الصلاة الصحيحة دراسته، ألا وهو ((صفة صلاة النبي ﷺ من التكبير إلى التسليم)) يقول: ((فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله، وقد روى عن أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة، كلها تؤدي إلى شيء واحد، وهو وجوب الأخذ بالحديث، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له:
1. ((إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي)).
2. ((لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه)). وفي رواية: ((حرام على من لم يعرف دليل أن يفتي بكلامي)). وزاد في رواية: ((فإننا بشر، نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً)). وفي أخرى: ((ويحك يا يعقوب ـ أبو يوسف ـ لا تكتب كل ما تسمع مني، فإني أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً وأتركه بعد غد)).
3. ((إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول ﷺ؛ فاتركوا قولي.
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله؛ فقال:
1. ((إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)).
2. ((ليس أحد بعد النبي ﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي ﷺ)).
3. قال ابن وهب: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال: ((ليس ذلك على الناس)). قال: فتركه حتى خفّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: ((وما هي؟)). قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبدالرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي، قال: رأيت رسول الله ﷺ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: ((إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع.
وأما الإمام الشافعي رحمه الله؛ فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب، وأتباعه أكثر عملاً بها وأسعد، فمنها:
1. ((ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله ﷺ وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصّلت من أصل فيه عن رسول الله ﷺ خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله، وهو قولي)).
2. ((أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة رسول الله ﷺ؛ لم يحلّ له أن يدعها لقول أحد)).
3. ((كل مسألة صحَّ فيها الخبر عن رسول الله ﷺ عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي)).
وأما الإمام أحمد؛ فهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة وتمسكاً بها، حتى كان يكره وضع الكتب التي تشمل على التفريع والرأي، ولذلك قال:
1. ((لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذْ من حيث أخذوا)). وفي رواية: ((ولا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي ﷺ وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ، الرجل فيه مخير)). وقال مرة: ((الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي ﷺ وعن أصحابه، ثم هو من بعد التابعين مخير)).
2. ((رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة؛ كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار)).
3. ((من ردَّ حديث رسول الله ﷺ؛ فهو على شفا هلكة)).
تلك هي أقوال الأئمة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ في الأمر بالتمسك بالحديث، والنهي عن تقليدهم دون بصيرة، وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً، وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة؛ لا يكون مبايناً لمذهبهم، ولا خارجاً عن طريقتهم، بل هو متبع لهم جميعاً، ومتمسك بالعورة الوثقى التي لا انفصام لها، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم، بل هو بذلك عاصٍ لهم، ومخالف لأقوالهم المتقدمة، والله تعالى يقول: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: ((فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول ﷺ وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر رسول الله ﷺ أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي أي معظم قد خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضاً له، بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم، وأمره فوق كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره؛ فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره، وإن كان مغفوراً له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول ﷺ بخلافه.
قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر، وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه، ولولم يأخذ بها أو أخذ بخلافها، فإذا استقر عندك ذلك ـ يا عبد الله ـ ووعاه قلبك وراقبت ربك سبحانه، وتركت الهوى؛ علمت أن أحرص الناس على اتباع الأئمة هم السلفيون، حيث لم يفرقوا، بل أخذوا من الكل، وردوا كل ما خالف سنة المصطفى ﷺ؛ لأنها أولى بالاتباع
ونحن نرى أن الناس مراتب:
الأولى: الإمام المجتهد الذي بلغ من العلم والفهم ما بلغ؛ فهذا يستنبط المسائل من الأدلة ويقول بما يظهر له.
والثاني: طالب العلم الذي يستطيع التمييز بين الأدلة ومعرفة أقوال أهل العلم والتمييز بينها؛ فهذا لا يحل له التقليد، بل عليه الاتباع والترجيح.
وللأسف أن كثيراً ممن يتولون التدريس ـ بل والإفتاء ـ يلزمون الناس ويزعمون أنهم يقلدونّ والمعلوم إجماعاً أن المقلد لا يحق له الإفتاء؛ إذ لا يقلد إلا العامي، وهذا من الاضطراب، ونحن نرى أن هذا الصنف يجب عليه الاتباع، ولا يجوز له التقليد.
والثالث: وهو العامي، أي الذي لا يستطيع التمييز بين الأدلة، ولا ترجيح أقوال أهل العلم؛ فهذا عليه أن يأخذ بقول من يراه من أهل العلم ويثق بدينه، وعليه أن يوطن النفس على معرفة الدليل والرجوع للدليل، وعدم التعصب لقول مفتيه، ومن كان هذا حاله فلا يحق له أن يفتي غيره.
وإذا ظهر لك هذا يا عبد الله؛ علمت يقيناً ـ إن كنت منصفاً ـ أن ما يُنسب للسلفيين بأنهم لا يحترمون الأئمة الأربعة ولا يأخذون بأقوالهم؛ إنما هو زور من القول وباطل وافتراء، وخلافه هو الصواب، بل إن السلفيين هم المتبعون حقيقةً للأئمة الأربعة؛ لأنهم يحترمون أقوال الجميع دون تجريح أو تعصب أو تحيز، ودعوتنا للرجوع إلى الكتاب والسنة ونبذ الفرقة هي دعوة الأئمة رضوان الله عليهم. ومن أراد التوسع فليراجع كتاب ((رفع الملام عن الأئمة الأعلام)) لابن تيمية رحمه الله، فقد فصل وأجاد.